الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

ابن حزم و الصحة النفسية

يعنى موضوع الصحة النفسية بتقويم عواقب السلوك من حيث كونها مرضية أو غير مرضية وفقًا لنوع الأهداف التي يحققها أو يقصر في تحقيقها، وهذا العلم الذي يرتب اليوم ضمن فروع علم النفس التطبيقي هو قديم قدم الطب البدني، بحث في موضوعاته كثير من الأطباء القدامى في حضارات العصور القديمة، وعرف تطورًا على يد الأطباء المسلمين الذين قدموا فيه أعمالاً باهرة رائدة، وبرز خصوصًا في عصرنا بفضل تطور العلوم الطبية وطرق الفحص والبحث والتجريب، وبسبب تعقد الحياة المعاصرة أيضًا ما عرض السلامة النفسية لكثير من الناس للخطر وهدد التكيف النفسي الذاتي والاجتماعي، وألزم العلماء الاهتمام بمشكلاتها والبحث في حلولها. والإمام ابن حزم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المولود في قرطبة عام 384 هـ/ 994م أحد أهم وأكبر العلماء الذين بحثوا في موضوع الصحة النفسية في الحضارة العربية وخلف فيها مصنفات ذات قيمة منها رسالتاه الثمينتان كتاب طوق الحمامة، ومداواة النفوس.كتاب مداواة النفوس الذي يعرف باسم الأخلاق والسير وقد تناول فيه ابن حزم موضوعات عديدة مثل: إصلاح الأخلاق والعقل والراحة والعلم والسير والإخوان والأصدقاء والنصيحة والمحبة والعادات، كما ضمن الكتاب آراءه حول وجوب التعليم ومساواة المرأة للرجل في العلم والثقافة، وقضايا تربوية وتعليمية أخرى.ويحدد ابن حزم أسباب التأليف فيما لاحظه من انحراف الناس عن السبيل القويم وغياب قدرتهم على التمييز بين الحلال من الحرام في الكسب، وبين الفضائل والرذائل في الأخلاق، كما أن العلماء أصبحوا عونًا على الفساد والطغيان بسبب سوء أخلاقهم ومرض نفوسهم، لذلك ألف كتابه الذي يروم من خلاله إلى إصلاح ما فسد من أخلاق الناس ومداوة علل نفوسهم (1). فابن حزم يعد القدرة على التمييز بين الحلال والحرام والفضائل والرذائل وحسن الخلق والسير في الطريق القويم مقياسًا للصحة النفسية.واشتهر ابن حزم بمنهجه الدقيق في كتبه، هذا المنهج يعكس تخصص الكاتب ومتانة تكوينه المعرفي، ويضفي على كتاباته طابعًا جماليًا واضحًا وقيمة علمية بارزة تجعل الاستفادة من آرائه واستنتاجاته أمرًا متيسرًا متاحًا للناظر في كتبه (2).وقد نحى في كتابه هذا منحى الأدباء، فجمع فيه معاني كثيرة، التقط بعضها مما قرأ من كتب وحلله وناقشه، واستخلص الأخرى مما مر به من تجربة شخصية وعاناه في حياته وحصل منها العبر والاستدلالات الرائعة والاستنباطات التربوية واستعان في بحثه النفسي بالأدوات التالية:البحث النظريبفحص الأعمال السابقة في موضوعه وتقريرها وتحليلها، وعلى ضوء هذا المنهج تتبع ما خلفه العلماء السابقون في كتاباتهم عن المشكل، واستخرج الكتابات والشواهد التربوية مما قرأه ثم حللها وأعاد صياغتها بما يتناسب مع بحثه، (جمعت في كتابي معاني كثيرة، أفادنيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام، وتعاقب الأحوال مما منحني عز وجل من التهمم بتصاريف الزمان، والإشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر من عمري، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس )(3). التأمل الباطني والاستبطان الذاتي التجريبي وهي طريقة يستعملها علماء النفس لمعرفة كيف يستجيب الفرد لحالات نفسية معينة، فيخضعون أنفسهم لها عن طريق الاختبارات ويستنتجون من ذلك قواعد تفيدهم في دراسة نفسية الأفراد وتحديد نوع سلوكهم والطريقة التي يصفون بها نوازعهم وانفعالاتهم، يقول ابن حزم: (كانت فيّ عيوب فلم أزل بالرياضة، واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس، أعاني مداواتها حتى أعانني الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه)(4)، وبذلك يمارس نقدًا ذاتيًا لنفسه. الاستجواب وقوام الطريق سؤال أو مجموعة من الأسئلة التي تتناول بعض المواضيع السيكولوجية والاجتماعية توجه إلى المستجوب بغية الحصول على معلومات تتعلق بمشكلة معينة (تسببت إلى سؤال بعضهم عن سبب علو نفسه واحتقاره الناس، فما وجدت عنده مزيدًا على أن قال لي أنا حر لست عبد أحد) (5). وقد رتب ابن حزم مباحث الكتاب في عدة فصول منها مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق والعلاقات الاجتماعية والعلم والأخلاق وذلك على أساس ارتباطهما بالحياة اليومية أو بالعلاقات الاجتماعية أو بالعادات وآفات الأخلاق ومداواتها.الصحة النفسيةتتعدد التعريفات التي قدمها العلماء المعجميون وواضعو كتب المصطلحات المتخصصة والباحثون لعبارة الصحة النفسية، ولكن أكثر التعريفات تكاد تتفق وتجمع على أن الصحة النفسية هي الشرط أو مجموع الشروط اللازم توافرها حتى يتحقق التكيف السليم بين المرء ونفسه وبينه وبين العالم الخارجي، تكيفٌ يؤدي إلى أقصى ما يمكن من الكفاية والسعادة لكل من الفرد والجماعة التي ينتمي إليها الفرد (6) وهو ما لمح إليه ابن حزم في كتابه، فمقياس الصحة النفسية ـ كما يراه ابن حزم ـ هو التوافق الداخلي المصحوب مع حسن التكيف مع المحيط بحيث يؤدي إلى أقصى درجة من الكفاية والسعادة. فمن محددات الصحة النفسية الواردة في هذا الكتاب ذكر ابن حزم القدرة على التمييز بين الحلال والحرام والفضائل والرذائل والسير في الطريق القويم بالتزام الأخلاق الحسنة.وكتاب مداواة النفوس يتصدى للعلاج النفسي للأشخاص الذين يعانون المرض النفسي، الناشئ عن سوء التفاعل الاجتماعي والتكيف النفسي، ويدرك مؤلفه أن للاضطراب النفسي أسبابًا أخرى لا صلة لها بالتكيف النفسي ولا بنوع التفاعل الاجتماعي، بل هي ناشئة عن اضطرابات فسيولوجية عضوية، يقول عن تجربته الشخصية التي عاناها ذات يوم (لقد أصابتني علة شديدة ولدت ربوًا في الطحال ، فولد ذلك عليَّ من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن الطحال موضع الفرح وإذا فسد تولد ضده) (7).مصادر القلق النفسيينشأ القلق نتيجة كبت الانفعال، والكبت سبب المرض النفسي غالبًا، وهو عملية دفاعية يقوم بها الأفراد لإبعاد الدوافع الغريزية التي يتعارض إشباعها مع فكرته عن نفسه أو مع التقاليد والمعايير الاجتماعية عن طريق نسيانها، والكبت هو من أشد أنواع أساليب الدفاع تأثيرًا ودفعًا نحو التطرف والاضطراب ويؤدي إلى أشكال عدة من القلق وأشدها سوءًا القلق العصابي، أما الكبت المسرف فإنه يهدد الشخصية ويؤدي إلى تشوهاتها إذا لم يعالج(8). وإذا كان القلق يهدد الشخصية فإن له دورًا في عمليات توافق الكائن الحي، فهو يعمل كمؤشر وينذر بوجود استجابات العصاب، كما يتنبأ بتوافقات الكائن الحي التي تعمل لمواجهة ضغط أعلى(9).ومما عده ابن حزم اكتشافًا مهمًا اهتداؤه إلى دوافع السلوك البشري، بحيث تبين له أن الناس كلهم يتفقون جميعًا في مطلب واحد وهو خفض القلق (طرد الهم) الناتج عن متطلبات الحياة اليومية، مستعملين لأجل تحقيق هذه الغاية وسائل شتى متنوعة. فالدوافع للسلوك هو خفض القلق الناتج عن عدم إشباع الحاجات المتنوعة وكبتها فيعبر عن نفسه بالحث المتواصل للاستجابة، (فطلاب المال إنما يطلبونه ليطردوا هم الفقر عن أنفسهم، وطلاب الشهرة وعلو المقام إنما يسعون إلى ذلك ليطرودا به هم الاستعلاء عليهم، والذي يطلب مجرد العلم فهو إنما يفعل ذلك إبعادًا لهّم الوحدة عن نفسه)(10) فالسلوك الإنساني تحركه الحوافز المعبرة عن الحاجة الملحة، وهي إما نفسية كالحاجة إلى الانتماء والقبول الاجتماعي والتقدير، وإما مادية كالحاجة إلى الطعام والدفء والجنس وغيره، وبروز هذه الحاجات وإلحاحها وصعوبة تلبيتها والعراقيل التي تحول دون ذلك أحيانًا يحدث في الفرد صراعًا داخليًا يسعى المرء للتخفيف منها بالاستجابة السلوكية بغية الحد من الصراع الذي ينشأ بسبب عدم تلبية الحاجة (هموم الأضداد).أسباب الهمالهم هو حالة نفسية غير سارة من التوتر العصبي، تدل على أن الفرد مهدد في توازنه، فيسلك المرء بهدف دفع هذا التهديد.إن ما يعنيه ابن حزم بالهم هو مشاعر الاكتئاب والغم المصحوبة سواء بأعراض القلق الصريح أو بانخفاض في الفاعلية، ولهذه الاضطرابات النفسية أسباب شتى متنوعة، وهي كما أمكننا التقاطها من كتاب ابن حزم:الشعور بالذنبيترتب على ارتكاب الآثام والمعاصي شعور بالذنب يخالج المذنب، وقد ذكره ابن حزم بقوله (أول من يزهد في الغادر من غدر له الغادر، أول من يمقت شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية في عينه الذي يزني بها) (11) فمشاعر الذنب الصادرة عن الأنا الأعلى تعذب المذنب، وهذا الإحساس يعبر عن الرغبة الكامنة في تلقي العقاب واستحقاقه، وعن الشعور بالمسؤولية عن الإساءة المرتكبة أو من الشعور بعدم الجدارة، وهذا الإحساس مصدره الأنا الأعلى الذي يتمثل في القيم الدينية حتى ولو كانت تعرف تراجعًا مقابل تفشي أنقاضها في الساحة الاجتماعية من مظاهر أو أعراض (الفساد الأخلاقي وتفشي الرذائل)، فهذا الإحساس يظل نابعًا من الذات ولا يمحوه انتشار السلوك اجتماعيًا، فالمذنب يلوم نفسه لأدنى مشكلة أو فشل، خصوصًا إذا نتجت عن معاصيه تبعات صحية أو قضائية أخرى لا قبل له بمواجهتها. فإنها تشكل لديه مفهومًا سيئًا عن ذاته المخطئة المذنبة، لأن الإخفاق في العيش بما يتناسب مع المفهوم النمطي للشخصية المسلمة السوية كما حددها الدين لا يلغي دور ووظيفة الأنا الأعلى في الفرد.الشعور بالعجز يتولد الاكتئاب عن الإحساس بالعجز عن تحمل مطالب الحياة الاجتماعية ومسؤولياتها المتعددة وما تستدعيه من جهد قد يفوق طاقة المرء. فالفقير المعوز تعجزه قدراته عن وضع حد لهمه بالوفاء بمطالب من يعول، وهذا الشعور بالعجز إذا استمر يؤدي إلى اليأس والقنوط والسوداوية والانسحاب، فهو لا يعني عجزًا عن الحركة البدنية ولا ضعفًا في القوة العضلية، إنما تضافرت في خلقه عوامل وأسباب شتى اقتصادية واجتماعية متداخلة، والفقير المعوز فاقد الأمن، دائم الاتكال على الآخر في سبيل توفير حاجاته المعيشية وحاجات من يعول، وقد يسبغ على الآخر الغني المحسن صفة الجبروت المالي والاجتماعي، ويخاف من توقف عطفه وإحسانه.والجهل أيضًا يزيد في تقوية الشعور بالعجز، فهو في الوقت نفسه سبب لنقص في المهارات والكفايات الشخصية ونتيجة لها، ونقيضه العلم الذي هو عامل مهم من عوامل التكيف النفسي والاندماج والارتقاء الاجتماعي، لذلك حرص ابن حزم على تبيين الجوانب المؤثرة في النفس نتيجة قلة الاهتمام بالعلم والعناية بالتعلم وتعاطيه.كما أن طعن الناس وعيبهم في ذات الشخصية لفقرها أو لجهلها أو لسبب آخر يستدعي ردود الفعل المباشرة للدفاع عن الذات المهددة المعيب فيها، والرغبة المكبوتة في رد الطعن للناس ومبادلتهم العيب تعبير مباشر وصريح للعدوان الاجتماعي العلني والضمني وهي الهم نفسه.الاستجابة للخسارةيعد فقد شخص عزيز بموت أو غياب سببًا آخر من أسباب الغم والاكتئاب، والناس كلهم بلا استثناء مهددون بفقد عزيز يومًا ما، إلا أن طبيعة استجابتهم لهذه التجربة تختلف من فرد لآخر، وتشكل الثقافة أحد أهم عوامل تحديد طبيعة الاستجابة نحو هذا الفقد، إلى جانب طبيعة العلاقة مع المفقود، وقد تعرض ابن حزم نفسه لهذه التجربة، وعبر بصدق ودقة عما خالجه من مشاعر الهم والاكتئاب، فالتجربة تمثل صدمة قوية وتبعث الاضطراب العقلي والسلوكي، وقد ينشأ عنها أفكار سوداوية تشاؤمية أو ميول نحو تدمير الذات.الشعور بالإقصاء والنبذإن المرء دائم الرغبة في الحصول على تقدير الجماعة وانتباهها، وهذه الرغبة تعد سببًا رئيسًا للعمل على جلب هذا الانتباه بطرق شتى، منها النبوغ والتفرد والقيادة وغيرها، ولكن ليس كل الناس يمكنهم بز أقرانهم بمواهبهم أو قدراتهم العقلية أو البدنية، والفشل في الحصول على تقدير الجماعة يؤدي إلى نمو مشاعر الغضب.وأشار ابن حزم خلال تناوله موضوع العلم إلى الأهمية الصحية النفسية والاجتماعية لتعاطي العلم والاهتمام به، فالجهل كان من أكبر العيوب القادحة في الشخص في المجتمع الأندلسي، فالأندلسيون عبروا دومًا عن مباهاتهم بانتشار العلم بين مختلف طبقات المجتمع الأندلسي، أحرارهم وعبيدهم، رجالهم ونسائهم، أمرائهم وعامتهم، والاشتغال به يتيح للناس فرصًا مهمة لإبراز قدراتهم وتفردهم وللإبداع في حقوله المتعددة من نثر وشعر وبحث وغيره، ويقلل إلى حدود دنيا احتمالات النبذ لدى متعاطيه والتي يحسها المرء من قبل الأهل والأصدقاء ومؤسسات المجتمع الراقية وتشعره بالنقص واحتقار الذات فمن أسباب تعاطي العلم (الحرص على كسب محبة العلماء أو إكرامهم).السلوك وخفض القلقوالمرء حين تحركه الحاجات ويستجيب بسلوكه، يسلك إما بطريقة فطرية لا أثر للتعليم الاجتماعي فيها. وقليلاً جدًا ما يتم ذلك، أو بطريقة مكتسبة من البيئة الاجتماعية الثقافية وعن طريق الخبرات وفرص التعليم الاجتماعي وهذا غالب سلوكه، فعندما يجوع تحركه الحاجة إلى الطعام، فيستجيب بطريقة مطبوعة بالعادات والتقاليد هي وليدة البيئة الثقافية تعلمها من وسطه، بينما حين يترك لأهوائه يسلك بما يتعارض مع مصالح الآخرين، والدين إنما يضبط هذا السلوك ويحافظ على مصالح الجميع.
فالساعي لتلبية الحاجة تهجم عليه هموم أخرى طارئة إذا اتبع سبيلاً غير مأمون، من هذه الهموم الطارئة الإحباطات في طريق تلبية الحاجة، أو ضياع ما يوجد منها، أو العجز عن الاستمتاع بها وغير ذلك، فأسباب القلق متعددة كحث الحاجات وألم الإحباطات وعرقلة المعيقات.وتكرار مواقف القلق يؤدي في حالة فشل التغلب عليها إلى ازدياد حساسية الفرد لمواقف القلق والإحساس بالنقص والدونية وكثرة النقد لذاته، والتشكيك في قدراته، بينما النجاح في التغلب عليها يؤدي إلى الثقة بالنفس، لذلك يقترح ابن حزم سبيلاً مأمونًا أكثر فعالية في طريق دفع الهم يضمن التغلب عليه ويدفع الهموم الطارئة، هذا السبيل هو الدين، بعبارة مختصرة (التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة) فالذي يعمل للآخرة، فسوف لا يجد شيئًا من هذه الاحتمالات بحيث يمكن التأكيد وبكل ثقة أنه سينجح إلى أقصى حد يمكن أن يتصوره إنسان في التخلص من الهم كلية بحيث يستمتع بصحة نفسية وشخصية سوية ومن أهم سماتها:ü قبول الفرد لذاته واحترامه لها، والشعور بالرضا عن حياته، وهذا الشعور شرط تحقيق السعادة الفردية.ü تقبل الآخرين وتقديرهم والتفاعل معهم ومبادلتهم الأخذ منهم بالعطاء لهم، والتعاون معهم، وهذا التفاعل ضروري لسعادة الجميع.ü الاستقلالية في اتخاذ القرار: فلا يخضع الفرد لظروفه الآسرة التي لا يرتضيها، بل عليه أن يتحمل مسؤوليته في إنجاز ما يستطيعه لأجل التحرر من هذه الظروف، بطلب العلم والعمل الإنتاجي.ü اختيار حياة العمل والنشاط وخوض غمارها.ü الشعور بالكفاية والقناعة لمواجهة مواقف الحياة، والتحمل والصبر، بحيث يجب على الفرد أن ينمي إمكاناته ليكون قادرًا على مواجهة مختلف مواقف الحياة، ولتحقيق هذه التنمية يجب تعرف الذات والوقوف على نقائصها والسعي لتكميلها.التسامييولي ابن حزم أهمية قصوى لعملية التسامي، أو الإعلاء، وهي العملية العقلية التي تمكن الفرد من التعبير عن دوافعه المكبوتة بطريقة غير مباشرة ولكنها مقبولة اجتماعيًا ويختار التسامي كأولية دفاعية من بين سائر الأوليات المتعددة كالنكوص والنفي والاجتياف والإسقاط والتماهي وغيرها. وتفيد عملية التسامي الفرد والمجتمع معًا، فهي تفيد الفرد لأنها تؤدي إلى خفض حالة التوتر عنده والوقاية من الانحراف، وتفيد المجتمع لأن المجالات التي ينخرط فيها الفرد توظف فيها طاقة الفرد وجهده توظيفًا نافعًا اجتماعيًا. فمجالات وأنواع الأنشطة التي يقوم بها المرء خارج أوقات العبادة أو تحصيل الرزق تمثل عنصرًا مهمًا من عناصر شعور المرء بالرضا عن الحياة.والتسامي يساعد على خفض التوتر الناشئ من عقد نفسية ويحول الدوافع السلبية التي ينتقدها المجتمع كالاستعلاء والجنس والعنف إلى عواطف إيجابية يوجهها إلى مناشط أخرى يقدرها المجتمع مثل الإنتاج العقلي والأدبي أو الإحسان أو غيره، فالتسامي يؤدي إلى خفض حالة التوتر والقلق الناشئين عن العلاقة الصدامية بين الرغبات الفردية والثقافة الاجتماعية. ومن الممكن إعلاء جميع دوافع الفرد، والتسامي بها، وهو ما يقترحه ابن حزم كعمليات للتسامي والإعلاء.العلميقدم ابن حزم مفهومًا جديدًا للكمال البشري يحصره في الطلب الدائم المستمر للعلم والاستزادة منه والجد في تحصيله، فالعلم هو الذي يمكن المرء من تحصيل المهارات التي تميزه عن غيره من الكائنات ويتحقق له بها مفهوم الطبيعة الإنسانية التي خصها الله بصفات وميزات لا تشترك فيها معه غيره من الكائنات، ويوضح ابن حزم ذلك بأمثلة يعرضها على القراء بحيث يبين أنه إذا كانت قوة وضخامة الأبدان وحسن الأصوات والسرعة والجرأة وغيرها كلها صفات لا تستطيع فيها أن تضاهي الحيوانات التي تتفوق علينا، فإن (من قوي تمييزه واتسع علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك، فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس ) (12). وللعلم دور حاسم في تنمية قدراتنا على التمييز، وتوجيه العمل وتصحيحه وفي اكتساب الفضائل، فطالب العلم يعلم حسن الفضائل فيأتيها ولو في الندرة ويعلم قبح الرذائل فيتجنبها ولو في الندرة، ويضيف ابن حزم مبينًا قيمة العلم وأهميته في زيادة ثقة الفرد بنفسه وتحقيق حاجته إلى الانتماء قوله (لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك، وأن العلماء يحبونك ويكرمونك، لكان ذلك سببًا إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة(13)) فالعلم يضمن احتلال المكانة الاجتماعية اللائقة وتحقيق المنافع في الدنيا وبلوغ نعيم الآخرة.والعلم يتطلب تعلمًا وجلوسًا في الحلقات ونقاشًا، ومشاركة في أنشطة الجماعة وأفكارها، أي تفاعلاً اجتماعيًا محكومًا بآداب التعلم مع الشيوخ ومع المتعلمين والإحسان في التعامل ومبادلة مشاعر الألفة والمودة وهو ما يساهم بشكل قوي في تحقيق التكيف الاجتماعي للفرد، وسبيل ذلك الصبر على الأذى وتحمل شروط الاندماج بالتخلي عن الطباع والعادات والسلوكيات التي تحول دون تحقيقه أو تهدد بحصول النبذ والجفاء، فالتفاعل الاجتماعي السوي والتكيف النفسي السليم يتطلبان إلمامًا بالثقافة الاجتماعية وتعرف القيم والتمييز بينها ومراعاتها، والصبر والتحمل وتهذيب الغرائز الفطرية والسمو بالرغبات.وتوجيه العناية والاهتمام بالعلم إنما يتضمن دعوة للقراءة وحثها على النهل من الكتب باعتبارها معينًا لا ينضب للمعرفة وخزانًا للحكمة يمتح منها القارئ القيم والمعرفة ومكارم الأخلاق، فالكتب ظلت منذ قديم وفي ثقافات وحضارات عديدة كإحدى أهم وسائل العلاج النفسي أو ما يصطلح عليه في عصرنا بالبيبليوثيرابي (14) واعتبرت من أهم العوامل المساعدة على تعديل السلوك، وقد وجدت في الثقافة العربية كتب الرقائق وهي الكتب التي فيها ذكر الله وثوابه وعقابه ونعيم الجنة وحساب يوم القيامة وفناء الدنيا وبقاء الآخرة، وهو ما يرقق قلب الإنسان خشوعًا ورجاء في مغفرة الله وشفقة من عذابه، هذه الكتب التي أوصى المربون تلامذتهم بالعناية بقراءتها لتعديل سلوكهم غير السوي وتهذيب نفوسهم.وقد استخدمت طريقة العلاج بالقراءة خلال نصف القرن الأخير في علاج مجموعة من الأمراض النفسية كالقلق ومشكلات الاتجاهات والافتقار إلى العلاقات والدافعية والتوتر وغيرها من الأمراض، كما تذكر كتب التاريخ العربي أن برنامج العلاج في المارستان المنصوري بالقاهرة كان يتضمن تعيين مقرئين للقرآن الكريم يقرئون المرضى القرآن ليل نهار إلى جانب ما كان يقدم لهم من علاج بالعقاقير وغيرها.العمل والإنتاجيةويقول ابن حزم:( إن من العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة، وسائر الناس كل متول شغلاً له فيه مصلحة، وبه إليه ضرورة، أفما يستحي أن يكون عيالاً على كل العالم لا يعين هو أيضًا بشيء من المصلحة) (15) ويجب أن يكون الدافع للعمل تلبية لحاجة ذاتية ومراعاة لحاجة المجتمع، كما يجب أن يكون العمل مفيدًا نافعًا مقبولاً اجتماعيًا، فالعمل ضرورة لتحقيق الاندماج الاجتماعي والتكيف السليم واحتلال المكانة الاجتماعية الملائمة. والعامل المنتج محب للآخرين ويقدرهم ويحظى بحبهم وتقديرهم، وقيمة العمل لا تكمن في ذاته، وإنما في لوازمه وشروطه التي تحدد صلاحيته أو فساده وهذه دعوة صريحة لأجل إصلاح نية العمل والعناية بها، وهو أمر يجد عناية خاصة في أهم مصنفات التربية.مساعدة الناس والجودالعمل الإنتاجي يدعو إلى الإحسان في التعامل والتفاعل وإلى عدم مقابلة السوء بجنسه (من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم، ومن كافأ من أساء إليه منهم بمثل فعله فهو مثلهم، ومن لم يكافئهم بإساتهم بمثلها فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم) (16) وبذكاء ونباهة فائقتين وبمبادرة غير مسبوقة في أدبيات التربية الإسلامية ينتبه ابن حزم إلى ضرورة إحلال الثواب والتعزيز الداخلي محل التعزيز الخارجي لتثبيت السلوك وترسيخه وتكراره، بعرض قاعدة في بذل المعروف مفادها أن على من تصدى للناس بخدمتهم ومساعدتهم وبذل المعروف لهم ألا ينتظر عاقبة بذله ومعروفه منهم ، لأن ذلك عليه مدار تأليف القلوب والتأثير في الناس، وبه اتقاء الشرور من خبث نفوسهم، فيتعين على المرء ألا يعني بالمصالحة الوقتية والنتائج النفعية المادية أو المعنوية المترتبة عن سلوكه الإيجابي مع الناس، ويجب أن يتجرد من كون عمله مشروطًا بنتائجه وعواقبه التي تعززه، فالتعزيز القوي هو أن يكون راضيًا نفسه عن عمله بيقين نية إرضاء الله تعالى بتجريد العمل ابتداء وانتهاء لله وحده (وابذل أفضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل) (17). الثواب والمكافأة هما التجربة السارة التي يسفر عنها الإحسان للآخرين، وبغض النظر عن عوامل البيئة إن كانت قادرة على مكافأة هذا السلوك أولاً فإن تبصر ابن حزم بأهمية إحساس المرء بالرضا الذاتي عن سلوكه الخيري وثقته في ثواب الله ونيل رضاه يعمل كداعم إيجابي وقوي للسلوك، سيساهم في تكرار الاستجابة ويشجع على إعادة النمط السلوكي الذي أدى إلى بعث الرضا والسرور في المرء نفسه. (ولا تنصح على شرط القبول ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف)(18) . الزهد والقناعةيعرض ابن حزم الزهد كمجال آخر للتسامي، فمن المعلوم أن الناس لا يتساوون في قدرتهم على العمل أو الجود وبذل المساعدة للغير، فهناك من يجد الراحة في نزاهة النفس، والقناعة بما بين يديه، وإذا لم يقنع وعجز عن توفير ما يشتهيه داخله الطمع، والطمع مصدر للهم والفكرة والغيظ الذي ربما يؤدي إلى اضطرابات نفسية كثيرة وإلي تلف دنياه وآخرته، وهو (أصل لكل ذل ولكل هم.. وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة متركبة من النجدة والجودة والعدل والفهم)(19) فالنزاهة تتضمن الجود ولو بالنوايا، بينما الزهد هو قلة الرغبة في الشيء، وخلو القلب ما خلت منه اليد، وقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر مرفوعًا «الزهادة في الدنيا ليست بتحري الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك». والإمام ابن حزم ينصح بهذا الزهد، فالفكرة الأساسية هي طرد الهم، وهو ما يصيب الإنسان من فكر وضيق وألم بسبب كثرة ما يحتاج إليه، ويذهب ابن حزم إلي أن المؤمن الزاهد لا يأبه لما يفوته ويتحمل ما يصيبه بصبر وجلد، فزهد ابن حزم ليس نسكًا في المعابد أو رهبانية في الصوامع ولا تقشفًا صوفيًا، إنما هو أداة لتهذيب الأنانية الفردية ولتكسير حدة الجشع الذي يطغى على المرء فيفسد عليه دينه ودنياه.





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكاتب: الزبير مهداد ـ المغرب
مجلة المعرفة - العدد: 108

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق