الثلاثاء، 19 يناير 2016

يموتون غرباء .. رواية للراحل محمد عبد الولي


مقدمة الرواية
 كتبها عمر الجاوي

"
تقول تركوا أرضهم.. لماذا؟ لأنهم لم يستطيعوا أن يقفوا ببسالة ضد أوضاعهم القذرة!-شعب يهاجر من أرضه، شعب خائن لتلك الأرض.
-
الظلم يجعل الخيانة شيئاً بسيطاً.
-
ولكنه لا يبرر الفرار "
لخص الشهيد محمد احمد عبدالولي وجهة نظره حول الهجرة، من خلال هذا الحوار الذي دار في " يموتون غرباء " بين مهاجر يمني وابن مهاجر، هجين أو " مولد " في أديس أبابا، عاصمة الحبشة. ذلك لأن " الغربة " في كل أعمال قاصنا الراحل تتخذ طابعاً فلسفياً ونضالياً ودعائياً من أجل الثورة.
وكان رغم خياله الخصب يعتقد أن هذا القصص التي كتبها في حياته القصيرة، مجرد أحداث عاشها ومارسها وسمعها ولمسها بيده.
وفي سن مبكرة جداً بدأ محمد أحمد عبدالولي يكتب القصة وهو يدرس في الإعدادية.
وكان رغم حداثة سنه مثابراً على الكتابة حتى قبل أن يتمكن من ناحية اللغة نحواً وأسلوباً. وكانت صورة وخيالاته تبشر بقاص جيد ومتمكن..
حياة محمد عبدالولي مجموعة كبيرة من القصص، لأنه سريع الالتقاط... واسع الخيال.. نشيط في التدوين والكتابة.
والذين عرفوه وعاشوا معه، سمعوا منه عشرات القصص والروايات. ما خرج يوماً إلى الشارع إلا وعاد بطلاً من أبطال قصصه. وكان في أغلب الأحيان يعود منتصراً، لم يفشل في حب ولا حديث أو لم شمل وإنهاء عراك. ولعل هذا الإصرار على تمثل البطل المنتصر قد دفعه إلى المثابرة والمضي على طريق القصة اليمنية.
ولأنه ابن لمهاجر يمني وأم من الحبشة. فقد عاني كثيراً من الضياع بين أمه وأبيه.
تمثل طفولة محمد صراعاً حاداً سياسياً واجتماعياً وخلقياً بين ما هو قائم في اليمن من التزمت الحاد وبين ما يمثله المجتمع الحبشي من انفتاح أخلاقي، خاصة بين الذكر والأنثى.
تفتحت عيناه على تزمت ديني في البيت وفساد ودعارة لا حدود لها في أقرب الشوارع والأحياء إلى سكنه، ولم يستطع في طفولته أن يستوعب هذا التناقض الحاد. وكلنه حفظ الكثير من المشاهد واختزنها في ذاكرته لتكون قصصه الأولى عن الهجرة والمهاجرين.
وشكلت فترة ميلاده وصباه في ذاكرته كنزاً هائلاً من الخيالات والصور الاجتماعية والسياسية. ذلك لأن أباه كان من حركة الأحرار اليمنيين، طليعة المعارضة للحكم الأمامي خارج الوطن.
لم يوضح له أحد كيفية إسقاط حكم الإمام من قبل مجموعة تركت الوطن وانغمست في حركة جمع للتبرعات التي ترسل إلى عدن والقاهرة حيث وجدت مراكز حركة الأحرار.
في الوقت الذي كان يشعر فيه بالمهانة تجاه أقرانه من الصغار الذين كانوا يدعونه " بالمولد ". وإذا كانت الحبشة ليست وطناً له. فأين أذن وطنه؟! اليمن؟!
انظر أنه مجنون سوف يعود إلى اليمن.. أنه يظن أن هناك جنة.. وأن الإمام أصبح طيباً .. يا رجل . ما دام الوضع في اليمن هكذا. فلن يستطيع أي إنسان أن يعيش هناك"..
هذه هي اليمن كما عرفها من المهاجرين السياسيين اليمنيين، وعرف قسوة الغربة في أديس أبابا. حيث كان في عيون جيرانه " مولد وجمال ابن جمال ".
وبعد سنين طويلة فهم محمد احمد عبدالولي ماذا تعنيه الغربة والوطن وما الذي يعنيه العمل السياسي من أجل الثورة وقلب الأوضاع في مملكة الإمام. والإنجليز.
**
شهدت القصة اليمنية في حياة محمد أحمد عبدالولي ازدهاراً لم يسبق له مثيل. ويعود الفضل في ذلك إلى تنوع تجربته وثقافته وموهبته الفنية التي صقلها بدراسة فن القصة. ولم يعتمد على جهده الفردي الذي اكتسبه من القراءة المتواصلة وإنما تابع أثناء دراسته في مصر كل الندوات والمحاضرات ودرس في معهد جوركي للآداب في موسكو مدة عامين.
لقد تعرف عن كثب بكبار أساتذة القصة القصيرة العرب والأجانب. وسمع تقييماً كم كبار الأساتذة لانتاجه القصصي المترجم إلى اللغة الروسية. وكان يحب في بداية حياته القصصية تشيخوف ويوسف إدريس وحنامينا وغيرهم إلى درجة الجنون.
ورغم ذلك، لم يقع كغيره من الناشئين في شبكة التقليد والمحاكاة. وظل يكتب على سجيته، دون التفات إلى حصيلته الثقافية.. فلقد كانت مرارة التجربة التي عاشها في الطفولة والصبا هي المسيطر الأول على كل إنتاجه.
وقع في إحدى قصصه التي لم تنشر بعد ضحية هذه المرارة والشعور بالغربة. فحول القصيدة الشهيرة لمحمد أنعم غالب " الطريق " إلى قصة، لأنها تتحدث عن حالة المهاجر وذويه وبيته في الوطن:
"
يا بيتنا على التلال
أني أراه طيف ".
إذن فمحمد أحمد عبدالولي قد سخر ثقافته للتعبير عن هذا الكنز من الملاحظات في المهجر أولاً ثم الوطن، خاصة في السنين الأخيرة.
وأثرى القصة القصيرة اليمنية. ومضى مع زملائه على باذيب وأحمد محفوظ عمر وعلي محمد عبده وغيرهم على هذا الطريق الذي لم يتوان عنه يوماً واحداً منذ عام 1954م.
ومحمد عبدالولي قاض سياسي واجتماعي.. وتتميز قصصه عن بقية القصص اليمنية بالمواكبة الفعلية للقصة العربية والعالمية من حيث الشكل والمضمون.
فمنذ نهاية الثلاثينات والقصة اليمنية تتخذ طابع الخطابة والوعظ الاجتماعي والسياسي أو تنح ومنحى رومانتيكياً فيما بعد. وقد تأثر أول كاتب قصة يمنية، البراق بأسلوب المنفلوطي في الوعظ، وكان كتاب القصة في عدن حتى عام 1956 مجرد رواة عن حب رقيق مصدره الثقافة وليس الواقع. وكتب الدخان مقطوعات شاعرية صغيرة في الصحف العدنية ثم طبعها في كتيب وانهى علاقته بالقصة. وبدأ علي باذيب يكتب القصة السياسية المباشرة بأسلوب حديث.
كل هذه المحاولات المتنوعة. كانت بداية للقصة القصيرة اليمنية التي مضى على دربها وطورها بشكل جدي محمد أحمد عبدالولي وعلي باذيب وأحمد محفوظ عمر ومحمد الزرقة وزيد مطيع دماج وعلي محمد عبده وغيرهم من الشباب.
كان قاصنا الشهيد أكثر القصصيين اليمنيين انتاجاً وطموحاً للنشر.
فقد أصدر مجموعته الأولى " الأرض يا سلمى " جمع فيها باكورة انتاجه وانطباعاته عن الوطن والغربة. وأصدر مجموعة أخرى باسم " شيء اسمه الحنين " في نهاية عام 1972.
***
"
يموتون غرباء " هي أول قصة طويلة لمحمد أحمد عبدالولي وهي في نفس الوقت تصور بدقة حياة المهاجر اليمني في الحبشة وغيرها من بلدان الله.
ولكل مهاجر يمني هدفاً محدداً يسعى إليه ويسخر كل طاقته من أجل الوصول إليه.
عبده سعيد، يحلم بالعودة إلى القرية غنياً. من أجل أن يقول الأطفال " أحسن دار. دار عبده سعيد ".
"
من أغنى شخص في القرية؟ - فيصرخون عبده سعيد " ومن أجل أن يحقق هذا الحلم يتخلى عن كثير من التقاليد بما في ذلك الدينية. يضاجع النساء سراً ويمازحهن علناً ويصنع طفلاً لامرأة أحد المسؤولين لكي يتخلص من الضرائب.
وفي الناحية الثانية من القصة يصور محمد عبدالولي نماذج يمنية وحبشية بمنظار إنساني واسع وعميق الجذور.
فالعاهرات في نظره. نساء فاضلات في جوهر علاقتهن بالمجتمع. وعلى العكس يكمن الزيف والدجل في شخصية السيد أمين الذي يعيش على الخرافات والمعجزات والغش والإدعاء بمعرفة أسرار الكون. هذا المتصوف الذي يعيش عملياً على حساب عرق أفخاذ العاهرات وجبين المهاجر الفقير.
ويكشف محمد عبدالولي من خلال الصراع بين صالح سيف وسكرتيره آفاق التناقض الواضح بين جيلين يمنيين يعيشان في المهجر. جيل يعيش على الخداع السياسي والأخلاقي وآخر ممزق ولكنه صادق مع نفسه.
وبعد أن يدفن عبده سعيد الذي مات غريباً في أديس أباب يصرخ السكرتير المتمرد:
"
مات ولم يترك شيئاً طيبا في حياته سوى الآلام .. امرأة مهجورة منذ أعوام بعيدة وابناً لعم يعرفه وأرضاً لم يقدم لها أية قطرة من دمه . لقد مات غريباً كما يموت مئات اليمنيين "..
وأين مات عبده سعيد..؟
"
هذا القبر ليس قبره والأرض ليست أرضه، أنها قبور أناس آخرين. قبور الأحباش نحتلها نحن. ألا يكفي أن نلتهم اللقمة من أفواههم؟. فنلتهم حتى قبورهم يا إلهي كم نحن غرباء !! كم نحن غرباء !!".
هذه القصة الطويلة للشهيد من أنضج قصصه على الإطلاق. وهي في نفس الوقت تعبر عن موقف سياسي واجتماعي للكاتب من القضية اليمنية. ولقد طبعناها كما هي بما في ذلك بعض الركاكة في الأسلوب وبعض الأخطاء اللغوية، لقيمتها التاريخية. فلقد وعد المرحوم أن يعود من رحلته ليصححها لأنه كما يقول كتبها بسرعة.
هناك ثلاث مجموعات قصصية للشهيد كانت معه في الطائرة ومسرحية عن السجن ويحدونا الأمل الكبير في الحصول عليها.
أن الأعمال الكثيرة المتناثرة هنا وهناك للشهيد تحتاج إلى جمع وطباعة، كما تحتاج إلى دراسة كاملة من حيث موقعها الهام في القصص اليمني.
بقيت كلمة واحدة:
ذهب محمد أحمد عبدالولي  لزيارة كل مناطق جنوب الوطن، لأنه كان ينوي الهجرة إلى الخارج كما فعل أبوه وأصدقاؤه. فلقد تعب في الخمس السنين الأخيرة من السجون والقيود الثقيلة.
ومن أجل قصتين عن حياة السجن " العم صالح العمراني " و " ذئب الحلة " أعيد إلى سجن القلعة مكبلاً بالقيود لثمانية أشهر.
وفي آخر ليلة وهو في طريقه إلى المحافظة الرابعة. كان يردد بعد أن سمع عن اعتقالات أبريل الماضي:
"
لقد نجوت هذه المرة، ويبدو أن حاسة الشم عندي قد تطورت، وإلا لكنت معهم بدون سبب، إذن ليس هناك حل بالنسبة لي سوى الهجرة ".
وهاجر محمد أحمد عبدالولي دون عودة، ولكنه لم يحتل قبر إنسان آخر في أرض غريبة كما فعل بطل قصته عبده سعيد.

عمر الجاوي

الفصل الاول
كان كل ما يعرفه – سكان " سدست كيلو " عنه هو أنه قد فتح دكانه الصغير منذ أكثر من عشرة أعوام. أما هو فقد كان يعرف كل شيء عن أهالي الحي الذي يسكنه. خاصة عن ذلك الجانب من الحي حيث المنازل الصغيرة والحارات التي تمتلئ شوارعها بالطين دائما أثر تساقط الأمطار حيث – تصدح موسيقى مخمورة طوال ليالي الشتاء، وحيث يجلس مئات من العمال والمتعطلين أمام أقداح- الطجا – تغازل عيونهم مومسات تعدين الأربعين من العمل، وحيث كان يوم السبت مسرحاً أسبوعياً لمشاهدة مسرحية تتكرر مشاهدها باستمرار حتى أنه كان يعرف كل أحداثها قبل أن تحدث أمامه أما سكان الحي فهم يحبونه.. لماذا؟..
هم أنفسهم لا يعرفون.. قد يكون حبهم له لأنه كان أكثر طيبة من الآخرين الذين يملكون دكاكين مثله.. أو لابتسامته التي تعلو دائماً شفتيه.. حتى عندما يخيل لهم أنه حزين.
"
سد ست كيلو " حي السادة والعبيد .. حي الفيلات الصغيرة الأنيقة والحدائق اللامتناهية الخضرة . وحي القصور .. قصور الأمراء .. حي حديقة الحيوان.. حيث تسمع كل يوم زئير الأسود وصرخات السكارى.
كان حياً هادئاً كحدائقه الخضراء البعيدة في قلب العاصمة وحياً صاخباً كالخمر تتدفق براميلها في بطون لم تعرف معنى الشبع.. لكنها تسكر .. حياً متوحشاً كصراخ المومسات القبيحات عندما يرتمين أرضاً تحت أقدام سكير .. أو عندما يرفض أحدهم دفع ثمن لذة شعر بعدها بغثيان.
أما هو فلا يهمه هذا الأمر .. أنه يعيش بينهم لكنه بعيداً عنهم كالبعد بين ملابسه المتسخة السوداء ووجهه الأبيض المبتسم.
لا أحد يذكر أن هناك تغييراً قد حدث في وجه الرجل فهو كان قبل عشر سنوات لا يزال شاباً يقطر مودة وابتساماً.
كم عمره؟ .. لم يسأله أحد. وإن سأله فهو شخصياً لا يعرف . وقد يقول أحدهم: لكن ما الذي كتبه في جواز سفره؟ أنه شخصياً لا يعرف. دكانه كان صغيراً تماماً كغرف طولها عشرة أمتار وعرضها ثلاثة ولم يكن مجرد دكان .. كان أيضاً مسكنه فخلف – المبرز – حيث صفت في غير نظام أنواع البضائع الرخيصة والغالية . رز. سمن . عسل . قمصان حريرية. أزرار. إبر خيوط. كل ما يحتاجه سكان فيلا وكل ما تحتاجه مومس لترقيع ثوب قديم مزق في معركة .. خلف هذه الأشياء وحيث لا يرى الداخل إلى الدكان، كان سريره .. نوعاً غريباً من الأسرة: عدة صناديق خشبية وفراشا تأكل نصفه .. وبطانية اشتراها من بقايا بطانيات الجيش البريطاني الذي كان يطمع ذات مرة في احتلال الحبشة .. وموقد غاز . ودست للطباخة وبراد شاي وصندوق قديم في داخله بدلة اشتراها منذ أعوام ثمانية، يلبسها حين يذهب إلى المركاتو – هامن لشراء بضائع لدكانه. أو في يوم عيد. وكان هناك باب صغير في الخلف .. صغير إلى درجة أن عبده سعيد يحني ربع طوله ليعبره إلى حوش صغير استخدمها لقضاء (الأشياء الضرورية) وكذلك حديقة صغيرة زرع بها أنواعاً من الخضر طماطم، وبسباس. ولكن الحوش كان أكثر تنظيماً وجمالاً من ذلك المكان الذي يسميه غرفته. فالأرض حين تراها من وراء السور الذي صنعه بنفسه تدرك من الوهلة الأولى أن مجهوداً كبيراً قد بذل في الاعتناء بها. لماذا .. وصاحبنا لا يذهب إلى أي مكان أيام الجمع – أعني يوم الجمعة – فإنه يعطي نفسه إجازة عدة ساعات يقضيها في تشذيب شجيرات الحديقة وإصلاح ما يفسده بعض صبيان الحي.
الجميع يسمونه – كما يسمون أمثاله من اليمنيين المهاجرين – (جماله ) ولم يكن يغضب كما قد يغضب غيره بل كان يبتسم لهم في مودة .. وأحياناً كان يسمونه " صالح " بالرغم من أن اسمه كما هو مسجل في الجواز كان (عبده سعيد) ولكنه لم يكن يهتم بذلك. فما الفائدة .. أي اسم يطلق عليه ما داموا يشترون كل ما يريدونه من عنده. بل أن تسامحه في الكثير- فيما يتعلق بشخصه طبعاً لا ما يتعلق بالمال – كان عاملاً في جذب الكثير من العملاء، بل أن خادمات الفيلات كن يرفضن الذهاب إلى دكان الأرمني المجهز بأحدث الوسائل ويشترين كل ما يردنه من دكانه الذي يشبه حجر فأر.
في الصباح – تماماً في السادسة- يكون قد انتهى من صلاة الصبح يفتح الدكان وهو يتمتم بآيات من القرآن وببعض الأدعية التي حفظها عندما كان في القرية. ويهش الذباب بمنشة قديمة فتتطاير في الهواء حبات غبار مع أول أشعة النهار الذهبية بينما يسمع في الداخل صوت الموقد الغازي وعليه يغلي براد الشاي. وقد يدخل أحدهم وهو يقضم قطعة الخبز ويرتشف شاي الصباح إلا أنه يترك ما بيده ليقدم للزبون ما يريد.
(
العمل قبل الأكل) هذا هو شعاره أنه لا يفقد أي إنسان يدخل وكأنه مرة؟ وتكاد تمضي ساعة حتى في الدكان عشرات الأيدي السوداء ممدودة بالأوعية تطلب احتياجاتها وكان يبتسم للجميع.
-
الصبر يا ناس.
-
كل شيء سيكون بإذن الله.
وقد يغمز لإحدى الحسناوات وقد تمتد يده لتقرص ثدياً ناهداً لعذراء بل قد لا يتورع في معاكسة عجوز بمرح.
كان يعرف كل ما يطلبه العملاء فهو يعد كل شيء .. كيلوا رز لا برها، كيلو دقيق لنوريتو، كيلو سكر. و..
وكان كل منهم يجد ما يحتاجه . وكان الأرمني صاحب الدكان المجهز يتعجب دائماً فهو وكل عماله لا يستطيعون خدمة كل ذلك العدد من الناس الذين يترددون على دكان عبده سعيد.
-
أن هذا اليمني لشيطان رجيم.
-
أنه ملعون.
-
يا إلهي .. ولكن كيف يستطيع ذلك؟..
كان يعرف كم يجب على عميه أن يدفع، ولم يصدق الأرمني حين عرف أن عبده سعيد لم ير المدرسة في حياته.
-
ولكن كيف يستطيع أن يحسب؟..
-
أن لديه عقلاً جباراً هذا الملعون!
ولو رأى الأرمني عبده سعيد في المساء عندما يتسلم خطاباً من قريته ويقضي الساعات لكي يفهم ما كتب فيه.. ثم لو رآه وهو يمسك بالقلم ويخط على الورق حروفاً ما أنزل الله بها من سلطان .. لو رآه لجن .. ولكن عبده سعيد بالرغم من ذلك كان يعيد قراءة خطابه عشرات المرات ويخط على الورق كل ما يريد أن يقوله.
-
أن هذا اللعين يكسب بكثرة.
-
ولكن أين تذهب نقوده؟..
-
نعم استغرب .. لو وجدت عملاءه لأصبحت في مدى عام أو عامين مليونير.
-
لا بد وأن هناك سراً خلف هذا الرجل.
-
ايه.. أتريد أن تعرف سراً من يمني ؟ أسهل كثير أن تعرف السر من الشيطان.
-
أنه لا يأكل.
-
أنه يطبخ شيئاً أشبه بالمرق.
-
أنه يلبس ثوبه نفس ثوبه منذ عشر سنوات.
-
ترى هل ذهب مرة إلى الحمام؟ هل يعرف ما هو الديك الرومي؟
لكن أسئلته تبقى –دائما بلا جواب. أما عبده سعيد فلم يكن يسمع وأن سمع فإنه قد يبتسم وقد لا يعير الأمر أي اهتمام. أنه يفتح دكانه في الساعة السادسة صباحاً ويغلقه في التاسعة مساء وقد تجده بعد أن يتناول غذاؤه المكون من قطعة لحم ومرق تركت على موقده الغازي ساعات .. وقطعة خبر وشاي .. قد تجده يمضغ القات بكثرة كما يمضغه بقية اليمنيين الذين يعيشون في المرتاكة أو في منطقة أخرى من أديس أبابا.
وعندما كان يمضغ القات كان عملاؤه يرون في عينيه الواسعتين أشياء غامضة .. ابتسامة مختفية في طي أحلام بعيدة .. وشروداً لا يمنعه من تلبية طلب أي عميل .. والابتسام له .. كانت ساعات عذبة يعيشها عبده سعيد مع نفسه.
-
ترى في ماذا يفكر في هذه اللحظة؟
-
الشيطان وحده يعلم.
عبده سعيد .. قد يكون بالغاً الأربعين من عمره وقد لا يكون إلا في الخامسة والثلاثين، ذلك شيء لا يهم .. المهم والذي يعرفه الجميع – خاصة النساء – أنه كان رجلاً في الرجال.
بدأت القصة منذ زمن بعيد وقت ماتت المرأة التي كانت معه ولكن وجدت بعدها أطراف أخرى وكثيرة وكان النسوة يرددن دائماً شيئاً واحداً:
-
أوه .. لو تدرين فقط كم هو رجل.
-
أنه .. أنه .. لا يشبع.
وقد تكون المرأة مومساً لذلك فهي أكثر صراحة..
-
اسمعي .. لم أر في حياتي رجلاً مثله لقد كدت أموت لذة .. كم هو شهواني هذا الرجل.
وكانت كل واحدة منهن تتمنى بعد أن تسمع هذا الحديث أن تجرب .. لذلك لا تستغربوا إن كان معظم عملائه من النساء وقد لا تعود إليه المرأة بعد أن تجرب .. لكنها تبقى دائماً عميلته .. هناك شيء ما يجذبهن إليه.
أما هو فقد كان وديعاً .. حقيقة أنه يمرح مع الكثيرات .. وبطريقة قذرة لكنه كان يمرح وفي عينيه بعد عميق يوحي بالثقة . كم كانت عيناه سبباً في جذب الكثيرات .. كان وجهه بالرغم من عرضه وسمنته .. وجه طفل .. بل كان وجهه فوق جسمه العملاق يبدو جذاباً ولقد سمع مرات كثيرة بعض النساء يقلن له:
-
أوه يا طفلي .. ألا تريد أن ترضع!
-
كم أتمنى لو كان لدي طفل مثلك.
وقد يجيب أحياناً: سأكون سعيداً لو اخذتيني معك .. أو يقول:
-
أوه أنني اتمنى ذلك .. لكن نهداك .. قد جفا.
وكن يقهقهن بطفولة.
-
كم هو خجول هذا الطفل؟
لكنه يقول:
-
نعم لكنك لم تعرفيني بعد ..
أنهن يرددن الكثير عنه .. فقد أصبح جزء من تاريخ الحي، فهو لم يغادره مطلقاً بل لم يتغيب يوماً واحداً .. حتى في أيام الأعياد كان يذهب في العاشرة بعد أن يكون قد أعطى عملاءه كل ما يحتاجونه طوال يومهم – إلى زيارة بعض معارفه وأهل قريته في " المركاتة " حيث يتغذى هناك ( ويقيل ) لكنه يعود قبل أن تغيب الشمس .. وفي كثير من الأحيان كانت مضغة القات تبقى دائماً في فمه وهو يعطي عملاءه حاجات المساء.
وكان الأطفال يحبونه حتى ليقال أنه أب كثير من أولئك الذين وجدوا – بغير أب، خاصة أولئك الأطفال الثلاثة الذين ولدوا أيضاً بالرغم من أن أمهاتهم كن سوداوات – ولكن في حي مثل هذا أو في مدينة كأديس أبابا تضيع الكثير من الحقائق.
وقد سئل عبده عن ذلك فقال:
-
لماذا تقولون أنني أباً لهم .. أليس هنا من يمني أبيض سواي – ويبتسم ثم يضيف.
-
وقد يكون ما تقولونه صحيحاً ولكن الله وحده أعلم.
ويستدرك أحياناً وابتساماته تزداد اتساعاً – وأمهاتهم أيضاً.
ولكن أحداً من الأمهات لم يطالب بشيء بل لم يقلن له أنه أبا لأطفالهن إلا على سبيل المداعبة والمزح.
ولكنه كان يجب الأطفال ويهدي لهم – يلتم – أو كراملة – أو حفنة سكر – ويشاع أنه خلف في قريته زوجته وأطفال وأنه يبكى عندما يستسلم منهم الخطابات لكن أحداً لم يره يبكى.
ومثلما كان يحب الأطفال كان أيضاً يحب النساء فالواقع يدل على أنه يرفض مضاجعة أية امرأة أتت إليه.
-
لا يعرف أحد أنه ذهب بنفسه إلى امرأة ولكن تشاع أحياناً بعض الإشاعات أنه ذهب إلى بعض نساء الفيلات ذات الحدائق اللامتناهية الخضرة.
ويقال أنه ضاجع امرأة في الخمسين .. أما هو فيقول أحياناً على سبيل الضحك.
-
يا جماعة. كل النساء متشابهات. كلهن يملكن نفس الشيء .. لكنه يتردد كثيراً – هذا ما يقولونه – عندما يكون الأمر متعلقاً بعذراء . وقد حدث أنه كانت هناك فتاة عمرها في السادسة عندما خضر عبده سعيد إلى الحي وفتح دكانه وكانت تستمع إلى ما يقال عنه .. وكانت تكبر ويكبر معها حلم في أن يمتلكها عبده سعيد هذا الذي صورته أحلامها فارس الفرسان تماما .. كذلك العملاق الذي ركب حصاناً وبيده رمح يمزق به جسد حيوان خرافي مخيف كالمعلق فوق الجدار عند سرير أمها .. وقد كانت ترى أمها وهي تنحني كثيراً أمام هذه الصورة وصورة أخرى لامرأة سمراء جميلة وجهها ينبعث نورا وبيدها طفل اسمر جميل يبتسم.
كانت الطفلة تظن أن أمها تركع أمام عبده سعيد لأنها سمعتها تتحدث عنه كثيراً بحب وإعجاب وتذكر مرات كثيرة ذهبت فيها إلى دكانه.
وكانت تلح على أمها في أن ترسلها هي بدلا من أن تتعب نفسها وكانت أمها توافق.
كانت تقف ساعات أمام عبده سعيد تقيس جسده العملاق ووجهه الطفولي الشكل وعينيه العميقتين كالفارس المعلق في غرفتها.
وبلغت الخامسة عشرة .. وكانت أحلامها يغذيها – فهي ترى الجميع يتحدثون عنه – بل يقولون أحياناً في صراحة أنهم عرفوه.
وذهبت إليه . أنها تذكر جيداً كل شيء. كان الوقت مساء – والساعة منتصف التاسعة، والليلة مقمرة بعد مطر خفيف، وريح تهز أشجار الشارع، ولم يسمع في المساء زئير الأسود في الحديقة، وكانت ترتجف، ولم تكن مرتهبة فلقد انتظرت هذه اللحظة سنوات طويلة – لكنها كانت تريد أن تعرف ما الذي سيحدث؟
-
نظر إليها كالعادة وقال:
مرحبا طائتو ما الذي تريدينه؟.
-
أوه لا شيء، أبداً لقد جئت من .. أجل . أوه.
ونظر إليها وهو يبتسم واستمرت هي في حديث مضطرب.
-
أوه .. لقد نسيت لعنة الله على الشيطان .. أيها القديس جرجس ساعدني . لكنه وقف خلف دكته ينظر إليها كالعادة.
وكادت تنفجر فيه بغضب .. لماذا لا يتحرك؟ لماذا يقف بابتسامته البلهاء؟ لقد كرهت لأول مرة ابتسامته وكانت تنظر بحمى إلى جسده العملاق .. وكانت عيناها تائهتين.
وبدأ يدرك .. رأى صدرها في حركاته الثائرة .. ورمانتين – تكاد أن تمزقا صمت الثوب القديم .. وشفتيها الزنجيتين قد انفجرتا عن أسنان بيض مفرقة .. عرف كل شيء .. ولم يبتسم.
كان هناك بجانب الباب الكثير من الأكياس الفارغة بجانب أكياس أخرى لا تزال مليئة بالدقيق . والسكر والرز وأشياء أخرى.
رأت الباب يغلق بهدوء ورأت نفسها ترتفع .. وكانت نائمة على الأكياس الفارغة.
ولأول مرة في حياتها نامت في الدكان .. ولأول مرة أيضاً نامت امرأة في الدكان وشهد الباب الخلفي ومن ثم السور .. فتاة سمراء تقفز إلى الشارع .. وعلى شفتيها ارتواء أعوام عشرة.
وشهد الناس ابتسامة واسعة .. ومرحاً زائداً .. وربما كرم وتسامح. فعبده سعيد كان فرحاً .. ربما استعنا أن نقول سعيداً.. وربما لاحظ أحدهم قطرة دم فوق كيس ما .. لكنه لا يعقل أن يسأل .. فقد لا يجد السؤال . وأن وجده فهو لا أهمية له..
وأصبحت طائتو عشيقته بعد أيام ثم وجد الناس أنها فتحت منزلها الذي كان منزلاً لأمها التي ماتت بالسل – لتستقبل ضيوفاً غريبيين .. وقد يكونوا ضيوف أمها.
وأصبحت هي وبيتها عميلاً دائماً لدكان عبده سعيد .. وقد يكون شخصاً ما رآها تنسل في الظلام إليه .. لكن أحداً لا يستطيع أن يجزم أنه رآها هي بالذات فسرير عبده .. والأكياس الفارغة ترى دائماً الكثير من أنواع النساء. الشيء الذي كان يتندر عليه رجال الحي أنهم منذ أعوام كانوا يرون عبده سعيد – يقف صباحاً – مهما كان البرد في الحوش وفي يده دلو يصب منه الماء على نفسه وكان يغتسل .. وقد قال البعض وربما يكون على جنابه – أنه كان يفعل ذلك بعد ليلة يقضيها مع امرأة.
أما الآن فلم يعد أحد يراه يغتسل، وظن البعض _ أولاد الحرام – أن عبده سعيد قد مل النساء وأنه لم يعد يضاجعهن لذلك فقد تجمعوا في أحد الأيام وجعلوا يراقبون دكانه وعند منتصف الليل رأوا امرأة تقفز السور وتتجه إلى منزله. وفي الصباح لم يغتسل عبده سعيد. لكنه توضأ وراح يصلي فوق حجر مستطيل في الحوش، وكان البعض يقول للأرمني:
-
لو أردت يا صبحي أن تجذب إليك عملاء كاليمني فعليك بإرضاء النساء.. لا أحد يدري كيف وصل عبده سعيد إلى أديس أبابا وإلى (سدست كيلو) بالذات .. ذات صباح مشرق رأوه بقامته الطويلة يعدو في الشوارع ينظر إلى البيوت .. ثم رأوه ينقل بضائعه.. ويفتح دكانه وفي شفتيه آثار دعاء.
لكن أين كان قبل هذا؟
البعض يقولون أنه عمل في الجيش الإيطالي حيث كسب بعض النقود وعندما طردوه من الحبشة شد رحاله إلى أديس أبابا ولكن آخرين يقولون أنه لم يعمل مع الإيطاليين لأنه لا يجيد أي كلمة إيطالية .. وكل من عمل معهم يحدث أحياناً أن يتفوه ببعض الكلمات .. على سبيل التباهي بمعرفته لها.
ويقولون أنه قتل أحد الضباط الإيطاليين وسرق ملابسه .. وأدواته .. وضمنها البطانية العسكرية .. وبالطو عسكري رأوه معه في السنوات الأولى ثم وجدوا مزقه في الحوراي يلعب بها الأطفال بعد أن صنعوا منها كرة قدم.. وبراد الشاي الذي يشبه البرادات العسكرية .. بل حتى ذلك الكوب الحديدي الذي يستعمله لشرب الشاي أنه كوب لا يستخدم إلا في الجيش..
ويقف فريق ثالث يقول .. كلا .. كلا .. وبالرغم من شكله العملاق إلا أنه لا يستطيع أن يقتل دجاجة فما بالكم بإنسان أنه لا يشبه القاتل .. ثم أنه يعمل هنا مدة طويلة ولا أحد يراه يسرق .. فلو قتل ليسرق .. لسرق الآن أيضاً.. كلا أيها السادة أنه ربما حصل على هذه النقود لعمله حارساً في قافلة جمال لأحد التجار .. أنكم تعرفون أن القوافل كانت تحمل البضائع من الساحل إلى داخل البلاد عبر براري وغابات قبائل الدنكل التي لا تحترم حرمة أحد .. ثم العصابات التي تكونت للنهب والسرقة في أثناء الحرب كانت لا تطمع في أكثر من قافلة.
وعبده سعيد رجل شجاع وعملاق – فربما عمل في إحدى القوافل .. خاصة وأن هذه القوافل أصحابها يمنيين .. وتحمل بضائع لتجار يمنيين .. نعم .. أيها السادة أنه قد كسب نقود بشرف، بعرق جبينه، كما يكسبها الآن.
وفريق آخر يرى آراء أخرى والخبر الصحيح عنده، وهو لم يخبر به أحداً حتى النساء اللاتي كان يمنحهن اللذة، كان لا يتكلم معهن في أي شيء، حتى تأوهات اللذة كان يكتمها خلف شفتيه المقفلتين.
قال مرة أو مرتين أنه كان في أريتريا لكن ذلك لا يغير شيئاً، هل معنى وجود في اسمرا قد يعني أنه خدم في الجيش الإيطالي؟..
كلهم يعرفون أن تلك الأعوام .. أعوام ما قبل غزو الإيطاليين للحبشة وأثناء الغزو وبعده أيضاً كانت سواحل أريتريا تستقبل عشرات اليمنيين الذين تقذف بهم سواحل بلادهم المقفرة.
حتى عبده سعيد نفسه نسى هل كان ذلك الذي نقله من " الشيخ سعيد " إلى عصب صنبوق أم زعيمة أم مجرد قارب وضع عليه شراع ممزق. ذلك تاريخ قديم.
لكن هناك تاريخ أقدم، ماذا كان يعمل عبده سعيد قبل أن يعبر البحر؟ من هو؟ تلك أسئلة كثيرة محيرة؟ ولكن يمكن الإجابة عليها ببساطة، أنه من قرية .. في الريف اليمني.
هل اقتنعتم، طبعاً كلاً، ستعرفون لماذا هاجر؟ كلا اعتقد أن مثل هذا السؤال لن يطرأ على أذهانكم، كلكم تعرفون ذلك.
ولكن من هو عبده سعيد؟
كان راعياً عندما كان صغيراً، وكان والده فلاحاً صغيرا يملك عدة مدرجات في الجبل ومنزلاً من طابقين ورثة عن سلسلة طويلة من الأجداد، أما أمه فهو لا يتذكرها، لقد ماتت عندما أجتاح القرية مرض نسي أسمه ولونه لكثرة الأمراض التي تمر بالقرى، ولم يكن يقتات سوى لبن الغنم التي يرضعها في الجبل خفية والهواء الذي يرسل نسماته العليلة، وربما أيضاً بعض الفواكه التي تنمو فوق أشجار القرية كالبلس والبلح في الوادي، والموز الذي كثيراً ما كان يسرقه من بستان بجانب الوادي.
أن هذه الذكريات حبيبة إلى نفس عبده سعيد حتى أنه يتذكرها وهو يمضغ وريقات القات.
أما في الأوقات التي لا يرعى فيها فكان يذهب مع والده إلى المدرجات يساعده في البذر والتنقية والحصاد والجنى، ولا يزال يذكر الخبز المصنوع من ( الغرب) الذي كانت جدته تصنعه، مع الحلبة كم هي لذيذة فتة الغرب بالحلبة، وأحياناً العصيدة، وخاصة حين يكون في منتصفها لبن ممزوج بالسمن. ذلك زمان مضى.
لقد توفت جدته، مرضت أياماً قليلة.. لا يزال يذكر حشرجتها وهي متروكة في زاوية غرفتها تقول – أوه يا ابني كل شيء سينتهي سريعاً، وسأعود كما كنت، لكنها لم تستطع أن تعود من جديد.
لقد ماتت دون أن تنبس بكلمة – كانت حنجرتها قد سدت. وكان نائماً بجانبها وفي الصباح رأى عظام يدها مغروزتان في جانبه. وقال لها وهو لا يدري.
-
جدة .. جدة .. أنك تؤلمينني.
ولكنها كانت قد فقدت الإحساس بالألم إلى الأبد.
وكان قد بلغ الخامسة عشر .. وتزوج.
كل ما يعرفه أنه ذهب إلى السوق واشترى راسين غنم وبعض الطعام والملابس وعاد إلى القرية ليجلس في زاوية .. نفس الزاوية التي ماتت فيها جدته .. وربما أمه من قبل . ولتجلس بجانبه صبية صغيرة .. هي زوجته . بعد ثلاثة أيام ذهبت معه إلى المدرجات .. وحملت إليه في الظهر رغيف الغرب .. وصحن الحلبة .. وأحياناً كانت تحمل إليه بدلاً من الحلبة بعض – الحقين.
ولكن لماذا غادر قريته؟.
ربما كان عبده سعيد سيقضي حياته في القرية.
عمل في النهار، وقات فيما بعد الظهر .. وصلاة في المسجد في المغرب حتى ما بعد العشاء ولكن .. حدث في القرية شيء جديد.
كان ذلك عندما أرسل أحد أولاد قريته الذي هاجر مبلغاً من المال وبدأ والده في بناء منزل من ثلاث طوابق .. كان الطابق الثالث فيه .. كلها شبابيك كبيرة .. وطليت جدران البيت بالأبيض فكان كشامة بيضاء وسط جسم قدر أسود .. كان المنزل أكثر منازل القرية جمالاً.
وكان عبده سعيد يعمل في أحد الأيام مع زوجته عند أحد رجال القرية عندما سمع همس النساء ساعة الغذاء.
-
أيه .. صالح سيعود هذه السنة..
-
يا لها من سعادة عندما يدخل منزله الجديد.
-
نعم سيعود بجيوب مليئة بالنقود.
وثالثة:
-
كم هي سعيدة زوجته.
-
يا ليت كان هو زوجي.
-
لماذا لا تقولين لو كان زوجي مثله.
واستمر الحديث وكانت زوجته تشارك النساء الحديث.
-
ألا تعرفين لقد أرسل لزوجته ملابس من البحر .. كلها من الحرير.
-
أيوه .. وسمعت أنه سوف يشتري أرضا من الفقيه.
-
يقولون أنه غني جدا؟
-
نعم كل من ذهب في البحر يعود غنياً!
-
لماذا .. هل النقود هناك في الشوارع؟..
كان حديثهن نصالاً حادة تطعنه في قلب ورأى طفله الصغير يلعب في التراب وقد ظهر نصفه عارياً تماماً – وكان يتمزق .. وشعر بالحلبة تحرق فمه .. وبالرغيف يتحول إلى تراب .. والنساء يتحدثن وفي أصواتهن مرارة.
وذات مرة كان عائداً من السوق عندما لمح بعض النسوة يقفن في الطريق وقد وضعن أحطابهن على سور من الحجارة .. وهن يسترحن من رحلة التحطيب سمع وهو يمر بجانبهن أحداهن تقول:
-
انظري إلى ذلك المنزل .. ألا يشبه بيوت الجنة؟
-
نعم أنه أبيض وجميل.
وقالت إحداهن .. وكانت جميلة . وشابة:
-
يا ترى .. من صاحب هذا المنزل السعيد؟
وضحكت أخرى وقالت:
-
ومن هي صاحبته.
وفعلاً بعد أيام وصل صاحب المنزل .. وكان عبداً في القرية .. ذهب الجميع إليه .. وفي المقدمة كان الأطفال.
وعاد ابنه الصغير حاملاً بيده قطعة من التمر .. وأراها لوالده قائلاً أنظر يا أبي ما الذي أعطانيه.
ثم أضاف وهو يمضغ بتلذذ.
-
لماذا لا تذهب أنت وتحضر لي مثل هذا؟.
وشعر عبده سعيد بخنجر يمزق أحشاءه.
كان عبده سعيد يتحدث مع والده وهو ينظر إليه.
-
يجب أن أسافر يا ابتي.
-
والأرض يا عبده.
-
أنت فيك الخير يا أبي.
-
لكني قد شخت.
-
ستساعدك زوجتي .. وسأعمل هناك وأرسل لك نقود تستطيع أن تأجر بها عمالاً.
كان والده يريد أن يبقى للأرض - ويريده أن يسافر للمال .. ولم يكن يستطيع أن يقرر .. أما عبده سعيد فكان قد قرر كل شيء..
-
أنني منتظر بركاتك يا ابتي.
-
إذا ما دمت مصرا .. فسأدعو الله أن يبارك ويسدد خطاك.. ويفتح أمامك أبواب الرزق.
وفي صباح أحد الأيام .. كان عبده سعيد قد غادر القرية . وقبله ومن بعده غادر القرية آخرين.
كان ذلك قبل اثني عشر عاما .. أنه لا يعرف في قريته سوى القليل .. سوى تلك الخطابات التي تحمل إليه مرتين أو ثلاث في السنة لكنه .. كان سعيداً لأنه بالرغم من هذه المدة الطويلة .. إلا أنه كان يعيش بأعماقه لا في (سدست كيلو) ولكن في قريته البعيدة الصغيرة.
وكان عبده سعيد سعيداً في هذا الأسبوع الأخير لقد استلم رسالة من القرية لكن الأهم هو أنه استلم في الرسالة صور عديدة لمنزله الجديد، ذو الطوابق الثلاث حيث وزعت فيه في كل دور نوافذ كبيرة صنعت خصيصاً في المدينة وحملت إلى القرية، ان المنزل الجديد عروسة القرية كما تقول الرسالة وكما تقول أيضاً الصورة، كان منزله واضحاً تماماً. وكان جميلاً. حتى أن دموع عبده سعيد تساقطت مرات كثيرة، لكنه كان يضحك في نفسه خاصة وهو يقرأ مقطع في رسالة ابنه. " أنهم جميعاً يعجبون بمنزلنا حتى أن البعض يريد أن يبني مثله " نعم ابنه، أنه يكتب كلاماً بخط أجمل، تماما كخط الفقي الذي كان يحسده عليه، لكن ابنه قد أصبح رجلاً كما تدل الصورة وكما يدل أيضاً وجه حفيده الصغير.
نعم لقد شعر عبده لأول مرة بالمسافة الزمنية التي عزلته عن القرية.. لقد أصبح جداً وأصبح مالكاً لأحسن منزل في القرية.. وأكثر من هذا وذاك لقد أصبح يمتلك الكثير من أرض القرية .. خاصة ذلك البستان الذي يحد الوادي تحت الجبل .. حيث كان يسرق منه حين كان راعياً، الموز ... وأنواع أخرى من الفواكه.
أما ابنه .. نعم أبنه تركه حين كان في الثامنة من عمره اليوم صاحب دكان في المدينة. وكان كما يقول في رسائله " أن دخل الدكان يكفينا " ونحن نستطيع لو عدت إلى البلاد أن تستغني عن هجرتك.
أهالي الحي، والأرمني وصاحب الدكان الحديث كلهم لا يعرفون أين تذهب نقود عبده سعيد أما هو فقد كان يعرف تماما أين تذهب نقوده.
في صباح اليوم التالي رأى عملاء دكان عبده صورة منزله الجديد معلقة في منتصف الدكان.
كان منظراً عجيباً حقاً، ففي الدكان لم تعلق سوى صورة .. صورة قديمة جدا أعلاها التراب والقذارة للإمبراطورة. كانت معلقة في زاوية مرئية في الدكان.
وكان عبده يقدم لعملائه ما يحتاجون إليه . وهو ينظر إلى عيونهم المعلقة في الصورة – وكان في أعماقه يشعر بالقلق، ترى ماذا سيقولون لو عرفوا أن هذا منزله، منزله بالذات.. يا ترى أي شعور يمتلكهم.
جاشت خواطر كثيرة في نفسه .. ولو لم يكن الحياء يمنعه لأخذ الصورة وعرضا عليهم كلهم ولتفاخر دون انقطاع، كلنه لا يستطيع، لم يعرف أحد عنه سوى أنه يبتسم ويخدم عملاءه .. لم يحدث أحداً منهم عن نفسه، أو عن أحلامه، كان صامتاً كالقبر، لكنه كان يحدثهم كثيراً عن أنفسهم وأحياناً يقدم لهم نصائحه، بل يحدث أن يحل مشاكل تحدث في بيوت عملائه وأحياناً يعيد خادمة تهرب من فيلا أنيقة، يعيدها إلى عملها ويكون أيضاً قد أقنع صاحب الفيلا بزيادة مرتبها.
أما عن نفسه .. كلا. هذا لم يحدث.
لن الصورة ظلت معلقة – وعيون العملاء تلتهمها بفضول.
كانت هندسة المنزل غريبة .. فمن غير المعقول أن يكون المنزل في الحبشة وسأل أحدهم بحياء:
-
منزل من هذا الذي في الصورة ؟؟
-
كم هو جميل!!
وكانت ينابيع السعادة تتدفق في قلب عبده.. ولأول مرة يضيف كمية لا بأس بها إلى كيلو الدقيق الذي قدمه للرجل .. بل وقبل أن يجيب كان قد أعطى الرجل قطعة حلاوة قائلاً:
-
خذ هذا لأبنك الصغير.
ثم التفت إلى الصورة وقال أنه يريد أن يتأكد من شيء ما:
-
أتقول حقاً أنه جميل.
وقبل أن ينتظر رد الرجل الذي كان يهز رأسه إيجاباً قال:
-
نعم – أنه " قصر " شيخ قبيلتنا، أنه رجل غني وشجاع ولديه أراضي كثيرة، هل أعجبك المنزل حقاً؟
ومضى عبده يضحك بفرح عذب، بينما قال الرجل:
-
فعلا، إن مثل هذا المنزل لا يصلح إلا لشيخ قبيلة غني.
ومضى اليوم وكان عبده يريد أن يقول للجميع أن المنزل منزله لكنه كان يخاف ذلك لأسباب عديدة.. يخاف ألا يصدقوه ثم لم يقول أنه منزل الشيخ،-أنه شخصيا أكثر من شيخ، بل أن منزل الشيخ الذي يبدو في الصورة لا يساوي شيئاً بالمقارنة بمنزله.
نعم أنه يعرف الحقيقة، وكان لا يريد أن يعرفها الآخرون خاصة هذه الأيام أنه أصبح يشك في كل عميل جديد يدخل دكانه.. خاصة الرجال، وقلما يتحدث معهم. إلا إذا بدأوا هم الحديث.. وكان دائما يشكو لهم أنه لا يربح أي شيء.. بل أنه بالعكس يخسر الكثير.
لقد بدأ يعرف أن الأرمني يشيع حوله في مجالسه.. وفي الدكان والحي أشياء كثيرة-قالت له ذلك خادمة تشتغل في منزل الأرمني كانت في أحضانه قبل أيام-قالت أنها سمعت الأرمني يقول أن عبده سعيد لم يدفع ضرائب للحكومة منذ سنوات ست.. وأنه يكسب الكثير ولا يقدم حساباته في كل عام كما يجب أن يفعل. بل أن الأرمني قال أنه مستعد أن يثير القضية في الحكومة لأن عبده- كما يقول- كان يرشى بعض الموظفين حتى لا تطالبه الحكومة بالضرائب.. كان عبده يخاف من ذلك. فلو قال أن المنزل منزله وأنه يملك أراضي.. فمعنى ذلك أنه يكسب بل ويهرب ما يكسبه إلى بلاده. إذا قالوا اهتمت الحكومة بالأمر.. لفقد كل شيء، حتى حريته ولعرف السجن وظلامه.
ولذلك كانت سعادته يمتزجها نوع غريب من القلق.. وفكر كثيراً بالأمر.. وها هو الآن يخطو لصالح تحقيق فكرته.. عليه أن يعمل بهدوء وصمت ودون أن يعرف أحد حتى أقرب المقربين إليه.
في المساء كان عبده قد أغلق دكانه.. لقد ذهب اليوم نهارا إلى- الدكان-لشراء أشياء كثيرة يحتاجها ولم يدفع ثمن ما أخذه كالعادة.. قال للتجار أنه سيدفع بعد مرة.. ثم ذهب الحمام حيث اغتسل-كان من عادته يغتسل مرة في الشهر.. لكنه اليوم يغتسل لأمر في نفسه قبل أن يأتي موعد استحمامه الشهري.
وعندما عاد إلى الدكان وبدأ يعمل.. رآه سكان الحي بالبدلة الجديدة التي لا يلبسها إلا في الأعياد قال لهم أنه لم يجد الوقت لتغييرها.
لكنه ما كاد يغلق الدكان حتى كان قد حلق ذقنه.. أكل ما تبقى له من غذائه.. وأطفأ النور، كانت الساعة العاشرة.. عندما غادر الدكان وهو يحاول قدر الإمكان أن لا يلمحه أحد وفي جيبه كانت سكينة حادة.. على استعداد للدفاع عن النفس.
مر في شوارع هادئة.. وكان الوقت ربيعا.. وأشجار كبيرة خضراء تتلاعب الريح بأغصانها، وصوت تلاطم الأوراق يعيد في نفسه حنينا إلى القرية.. وكانت السماء سوداء سوى نجوم صغيرة تلمع.. ثم تغيب عندما تمر سحابة سوداء.
مر بشوارع كثيرة يعرفها، كان يقصد منزلا قريبا من دكانه، لكنه لكي يصل إليه كان عليه أن يمضى في شوارع أخرى، لعل أحدهم يلمحه فيثير ضجة لا يريدها مطلقا.
كان يسير، وهو يفكر في خطته التي رسمها بدقة ولم يكن يفكر في هدف هذا المساء إلا قليلا، كل ما يشغله هو أن يرى ابنه وأرضه والمنزل الجديد.
أما زوجته فهو لا يفكر فيها إلا أحياناً، ونادراً ما يدعو لها بالصبر لكي تعمل في الأرض، وتربي أبناءها، كان يتصورها كما تركها في الثانية والعشرين من عمرها.. صغيرة، هادئة، وفي وجهها أحلام بريئة، ونظرات بسيطة، كان يبتسم أحياناً وهو يجاهد ليرسم صورتها في خياله، وكثيراً ما يفشل كان وجهها قد انمحى من رأسه تماما، وعندما كان ينجح في رسمها كانت صورتها تختلط بصور عشرات النساء اللواتي مر بهن في أديس أبابا. وكان هذا يغضبه، فهو لا يريد أن يقارن زوجته بالنساء الأخريات أنها في نظره طينة أخرى " طاهرة " تماما كبلاده.
كان قد وصل إلى المنزل وجد الباب الخلفي مفتوحاً مضى في وسط حديقة يفوح منها عبير أزهار كثيرة ووقف عند وردة متمنياً أن يقطفها لكنه أوقف رغبته عندما رأى نافذة واحدة منارة وبينما النوافذ الأخرى في المنزل يطبق عليها ظلام دامس فتح باب الفيلا الخلفي، مضى صاعدا في درجات يعرف عددها تماما ودق على باب في الطابق الثاني طرقات خفيفة وبعد ثوان فتح.
في وسط الغرفة وقفت امرأة في حوالي الأربعين سمراء ممتلئة عليها عينان زنجيتان واسعتان، وفم صغير، وابتسمت وهي تراه، وقالت: لعلك درت حول المنطلقة كلها.
وهمهم بصمت.
نظرت إليه أحست في نظراته بحزن غريب فقالت وقد تملكها شعور بالقلق ما الذي حدث.. ما الذي يزعجك؟.
أوه- لا شيء أنني متعب.
مضت إلى غرفة داخلية.. ومضى خلفها.. وأطفأت أنوار الصالة.. قالت وهي تتوسط غرفة النوم الأنيقة.. ذات السرير الواسعة..
-
طبعاً متعب.. أنك كلب لا تترك أي لحمة إلا وابتلعتها.. فكيف لا تشعر بالتعب.
-
من قال لك هذه الخرافات؟
-
أنني أسمع كل شيء.
قالت ذلك وعلى شفتيها ابتسامة.
-
أنك تعرف ذلك جيدا.
تقدم إليها وضمها إليه بقوة.. فقالت وهي تتأوه بلذة وتمد له شفتيها- ألا تعرف أنه قد سافر إلى أسمره ولن يعود إلا بعد شهر.. ألسنا سعداء نستطيع أن نلتقي يومياً-أليس كذلك؟..
لم يجب عليها بل مضت يداه تتلمسان آثار جسدها البغي.. وفي داخله شهوة شيطانية وشعر بها ترتجف. وحملها كطفلة إلى السرير.. بعد قليل كان عرق حار يملأ ساقيها.
-
أرجوك قد يستمعون إليك.
قرصته في وجنتيه بحب وقالت:
-
أيها المغفل .. لقد أعطيت الجميع إجازة لا أحد هنا سوانا- أنني أريد أن امتلكك حتى الغد...
وشعر بعرقها.. وعاد الشيطان إلى أعضائه وكانت الساعة الواحدة.
وكانت تشعر بقوة اللذة. وكانا عاريين فوق سرير في حرير وفي تقاطيع جسدها كانت رائحة عطرة ممتزجة بعرقها.. تملأن أنفه. أما هي فقد كانت تدفن وجهها في أبطيه.. في شعر صدره الغزير. وتستنشق عبيره الممتزج بصابون رخيص اغتسل به بعد الحمام نهار اليوم.. برائحة دكانه الذي يدفن نفسه فيه ساعات حياته.
أوه يا لك من حيوان لذيذ.
ومضت تقبل كل ما يقابل شفتيها.
-
آه. أنني ظمآنة. أريد أن أشرب.
قامت عارية من السرير.. وبالرغم من أنه كان يعرف كل تفاصيل جسدها الأسمر إلا أنه غض الطرف حين لمحها واقفة أمامه عارية.. ورأى العرق يلمع فوق جسدها العاجي وفوق نهديها المتماوجين.. مضت وعادت بعد قليل وبيدها قارورة وسكي باردة وصبت كأساً وقدمته له.
نظر إليها بفزع.. وتمتم باستمرار.
-
أعوذ بالله.. أعوذ بالله جنبنا يا الله شرها.
قالت له وهي ترى شفتيه تتحركان.
-
ما الذي أصابك.. لم لا تأخذ كأسك.
-
أنني لا أشرب.. لا أريد أن أرى منظر الخمرة. أعوذ بالله منها ضحكت بل غرقت في قهقهة وارتمت بجانبه على السرير.. وقالت في تهكم.
-
لا تشرب !! أوه أيها المسكين.. لماذا؟
أجابها وهو يشعر بالقلق.
-
ألا تعرفين أنه حرام علينا.
-
حرام!!
قالتها في دهشة..
-
طبعاً حرام أن ذلك ما يقوله ديننا.. وأنت تعرفين أننا لا نشرب
مدت له الكأس بقوة وقالت:
-
خذ.. دعك من هذه السخافة.
قام من سريرها وبدأ يلبس ملابسه قائلاً.
-
لو قطعت قطعا. لما شربت. أتريدين أن أخرج من ديني.
عرفت أن الرجل جاد في ما يقوله.
-
لكنك.. لكنك تنام مع النساء. أليس هذا حراماً؟
نظر إليها.. كان قلقا وكان يلبس ملابسه بينما مضت هي تشرب وتنظر إليه.
-
هاه.. أليس ما كنا نصنعه الآن حراماً أم. أم أن الخمر أشد من ذلك؟ لم لا تجيب أنك حيوان لا تملك.. قلباً أو ذوقاً. كل ما تريده هو أن تضاجع ككلب درني.
ومضت تشرب.. بينما كان هو واقفا أمامها ولقد لبس كل ملابسه.
-
إلى أين تريد الذهاب؟
-
سأعود إلى الدكان.
نظرت إليه وهي تشرب.
-
هل أنت متأكد؟
لم يجب لكنه قال:
-
لن أشرب مهما عملت.
وقفت أمامه عارية وكان العرق يتلألأ فوق أعضائها وكان نهداها منتصبين بتحد.
-
هه ما رأيك.
مدت ذراعيها إلى كتفيه العريضتين.. ارتفعت على أصابع قدميها كانت تنظر إليه بإغراء.
أغلق عينيه وكان يتمتم باستمرار.
-
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله يا إلهي أنك تعلم ما تخفي الصدور أنك..
وعاد من جديد إلى السرير.
وكانت ملابسه تنام في أنحاء متفرقة من الغرفة.. كانت الحرارة مرتفعة في الغرفة لذلك تمدد دونما غطاء.
-
متى ستأتي غداً.. أنني انتظرك أنت تعرف أن كل ما نعمله محرم علينا ولكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا مادمنا نريد ذلك. أليس كذلك؟.
أنت أيضاً تعرف ذلك.. أن ذلك ليس حراما ما دمنا نرغب فيه ما دام ذلك في صالحنا. كل ما هو في صالحنا فهو حلال. حلال.. أنت توافقني أنك صامت قل كلمة يا حبيبي بل يا رجلي القوي.
-
أوه.. لا أعرف أنت تعرفين أنني لم أدفع الضرائب منذ مدة طويلة وقد ساعدتني أنت في ذلك كثيراً سمعت أن هذا الملعون الأرمني يريد أن يكشف الأمر.. أنت تعرفين أنني فقير أتعب من أجل أن أربح سنتا واحدا هل ستحدثين زوجك حتى يساعدني أنه موظف كبير يمكنه أن يتلاعب في القضية.
كانا ممدين فوق السرير.. كل ينظر إلى الآخر لحظات ثم يغيب في أفكاره الخاصة.
-
نعم.. نعم وهذا أيضاً حلال في رأيك ما دام في صالحنا ما دمت ستبقى معي أليس كذلك؟ أنت لا توافقني بالقول ولكنك بالعمل تثبت نظريتي لكنك تنظر إلي كشخص.. كفرد. هذه أنانية لكني سأساعدك فيها.
أما أنا فإنني انظر إلى سعادتنا و..
توقفت قليلاً ونظرت إليه.. وفجأة لاحت في وجهها ابتسامة حزينة.
-
وقد تكون أنت.. أنت بنفسك.. نعم قد يكون كل ما تصنعه مجرد لذة. للحظات ومنافع أخرى.. أنا أذن أبحث عن سعادتي فقط. عن لذتي.
نظرت إليه وفي نظرتها احتقار له.
-
أتعرف ما هي السعادة؟
نظر إليها نظرة بلهاء وفكر وهو يتمتم.
-
السعادة..
ومر برأسه شريط سريع.. المنزل الجديد في القرية، الأرض الجديد المرأة الغريبة التي تشعر بأنفاسه العفنة، أنت لا تعرف عذاب هذه الليالي.. أنت حيوان لكنها لم تنتظر إجابته.
كلا أنت لا تعرفها.. السعادة ليست أشياء محسوسة أنها إحساس.. إحساس لذيذ نشعر به ونحن نصنع الحب إحساس لذيذ نظل نبحث عنه سنوات وقد نجده للحظة واحدة، لكنها تساوي كل شقاء السنين، أنت لا تعرف كون أن تعيش امرأة مع زوج ينام بجانبها كجثة نتنة، زوج كله عظام وعندما يقبلها تشعر بأنفاسه العفنة تخنقها، أنت لا تعرف عذاب هذه الليالي.. أنت حيوان لا يهمك شيء.. وأي امرأة بين ذراعيك تروي عطشك أنك تعيش في سراب يا صديقي في سراب.
كان عبده يفكر بأشياء أخرى، ويسمع صوتها كأنه في قبر عميق، أنها ستساعده، لن يدفع هذا العام أيضا ضرائب، معنى ذلك أن خطته تسير إلى النجاح كم سيضحك من ذلك الأرمني؟
ومرت عليه سحابة ضيق، ولكنه سيخلي الطريق أمام الأرمني، وهذا هو كل ما يتمناه هذا الأرمني من سنين، آه لو استطاع قبل أن يمضي نهائياً أن يحكم الأرمني أيضاً، ولكن كيف؟ نعم كيف؟
-
أنك تفكر يا صديقي، قد يكون ذلك طيبا لكننا من طينة مختلفة وسنبقى كذلك كل منا يحتاج إلى الآخر.. ما الفائدة أن نكون مجرد محتاجين. متى نستطيع أن نعيش تماما كما نتمنى؟!
نعم ذلك أيضاً ما كان يزعج عبده سعيد أنه يفكر كثيرا متى يستطيع أن يعيش كما يتمنى أن يصلي صباح كل يوم فوق سقف منزله الجديد حتى يراه أهل القرية، أن يذهب إلى البستان يقطف من فاكهته وأن يطارد الأطفال، ويمنع النساء بمرح من أن يتخذن ظلال بستانه مكانا لرحلتهن عند عودتهن من جلب الحطب. أن يثبت سلطته.
نعم متى سيقول الناس.
-
منزل من هذا؟
-
يا له من منزل عظيم!!
ومتى سيسمع هذه الأجوبة التي حلم بها أعواما طويلة، في ليالي الشتاء الباردة.. وتحت قمر الربيع الحالم.
-
إن هذا المنزل وذلك البستان والمدرجات الكثيرة التي في الجبل هي، ملك عبده سعيد، نعم عبده سعيد ولا أحد غيره.
-
أيه أنه لا يملك هذا فقط بل ويملك أيضا دكاناً كبيراً في المدينة يديره ابنه، نعم ابنه.
ومتى يتساءل الناس.
ومن هذا الرجل، من أين أتى؟
ليسمع الإجابة وهو يبتسم.
-
أوه ، من لا يعرفه، إنه عبده سعيد صاحب أجمل منزل في القرية.
وسمع صوتها، من جديد، فأخرجه من أحلامه.
-
فيما تفكر يا عزيزي، الصباح يقترب خذني إليك. وقذفت بنفسها في أحضانه
الفصل الثاني
كان عبده جالساً في الدكان .. وكانت الساعة تقترب من السادسة مساء وفجأة دخلت " طائتو ".
نظر عبده إليها باستغراب. فهو لم يرها منذ مدة طويلة .. منذ أصبحت أجمل مومس في الحي .. وأصبح لها الكثير من العملاء والمحبين.
نظرت إليه وقالت:
-
مساء الخير. لماذا تنظر إلي هكذا باستغراب؟ هل أخفتك؟.
كانت تنظر إليه بعيون جميلة وبابتسامة هادئة تملأ وجهها الأسود الصغير .. واستمرت.
-
أم هل نسيت تلك الفتاة الصغيرة التي صنعت منها امرأة في لحظات ها .. كانت جميلة .. امرأة ناضجة مليئة بالشهوة. تغري أي إنسان يقترب منها.. وكانت هادئة..
كان عبده يمضغ أوراق قات صغيرة.. خضراء وهو ينظر إليها ولا يجيب.
-
يا له من إنسان غريب .. أنك تقطف أوراق القات وتعصف بالأغصان.. كم يذكرني هذا بصدر النساء اللاتي قذفت بهن بعيداً بعد أن أمتصيت كل نضارتهن.
قال لها وهو يلتهمها بعينيه:
-
حتى أنت تقولين هذا.. ما الذي أتى بك؟
ابتسمت وقالت:
-
لا تخف لم آت لأقول لك أن أصبحت أباً لطفل آخر مني .. يكفي أن أطفالاً كثيرين ينتسبون إليك.. يا له من حجر قلبك هذا!! أيستطيع الإنسان أن يترك أبناءه وهو يعرف هذا حق المعرفة..
-
أسمع لقد أتيت إليك لأقول لك أن " فاطمة " قد ماتت بالأمس. أنت وأكملت:
تعرفها تماماً .. لقد ماتت بعد أن عانت المرض أكثر من ستة أشهر ولم تستطع أن تتحمل أكثر.. ولقد تركت في غرفتها الصغيرة ذات السرير – حيث كانت – تحمل طفلاً صغيراً.. وأنت تعرف أنه أبنك أنه وحيد لا أحد لديه .. أتي إليك .. أنا أعرف أنك إنسان تافه.. ولكن لعل في أعماقك تولد عاطفة أسمها الأبوة .. أنه أبنك يا عبده يجب أن تعمل من أجله أي شيء. يجب.
كان وجهه يعبر عن أشياء كثيرة.. وفجأة أحس بأن القات يسد حنجرته. ولم يكن يستطع أن يحب ابنه، لقد رآه مرات كثيرة.. يلعب مع أولاد الحي، أنه يشبهه كثيراً حتى أنه تذكر المثل القائل (ابن الزنا يشبه أبوه) أنه أبيض مثله يحمل نفس وجهه الطفولي البريء لم يأخذ من أمه سوى شعرها المفلفل وشفتيها الزنجيتين ولكن ما الذي يستطيع أن يعمله ولقد قرر ترك كل شيء والعودة إلى بلاده، قرر الهروب إلى منزله الجديد وأرضه التي اشتراها بعرق سنوات الفراق الشاقة ليرى ابنه، نعم ابنه الحقيقي، ابنه الشرعي أما هذا يا إلهي ما العمل أن الفتاة تنظر إليه وهي تنتظر إجابته بماذا يجيبها ماذا يقول لها؟ لم يواجه في حياته هنا مشكلة كهذه.
أنه يحل مشاكل الناس، لعنة الله على الحيوان القذر الذي سبب له هذه المشاكل، لماذا كان على المرأة أن تلد وأنت تعرف أو ولدها غير شرعي " زنوة " وردد الكلمة في أعماقه " زنوة " ما الذي ستقوله للناس حين يعرفونه أنه أبنه هذا كلا ليس أبنه بل (زنوة) ما الذي ستقوله زوجته التي تصلي وتنتظر عودته مساء كل يوم – ما الذي سيقوله لابنه الذي تربي وأصبح رجلاً كبيراً نعم يجب أن يتخلص من هذا الأمر .. يجب.
-
إذن ما الذي تراه؟ كيف، ترى الأمر؟ بدأ مترددا خائفاً يا للشيطان ولكنه كان صامتاً.
أنت لا تريد أن تحل المسألة فكر يا عبده ما الذي ستقوله لها.
-
فكر يا عبده أنت إنسان طيب هذا ما أظنه فيك.. لا أعرف حقيقتك، ولكني لن أنساك مطلقاً كنت أحلامي العذرية.. كم تمنيت لو كنت رجلي.. أنت أول رجل في حياتي أعطيتك كل شيء ولم أطلب منك شيئاً، كنت أعرف أنني لن أحصل منك على شيء – ولكنني كنت شجاعة ترى هل ترى ستكون شجاعاً مرة واحدة؟ " إنني أحبك " لم اقل لك هذا مطلقاً ولم أكن أحب أن أقوله لكني ماذا سأعمل، أنت الذي تستطيع إنقاذ هذا الطفل، أنت والده، تذكر أمه، كم كانت طيبة رحمة الله عليها، حدثتني عنك كثيراً، وتنهدت في حزن وعلى وجنتيها العذبتين سالت دموع.
وكان عبده متردداً – ثم قال بعد صمت.
ولكن ما الذي تريدين أن أعمل، كيف. أنا لا أستطيع أن آخذه إلى هنا وأقول أنه ابني، ستأتي كل النساء الأخريات ويقذفن بأطفالهن عندي، أنا لا أستطيع أن أعمل لك أي شيء – كلا. أرجوك ألا تأتي إلي بمشاكل.. أنني أكل عيش " أنني اتعب من أجل فرنك " واحد يدخل خزانتي .. فكيف بالله تريدين أن أضم إلي طفلاً " زنوة " على أنه ابني .. ومن يعرف أنني أبوه .. الله وحده يعلم.
كان يسير في خطوات قلقة في الدكان وكان وجهه كريهاً.
-
أنت تعرف أنك حقير .. ولكنني ظننت أنك قد تعطف على الطفل.
-
نعم حقير..
وهز رأسه في أسف.
-
طفل. أي طفل هذا الذي تتحدثين عنه أنه زنوة .. أتعرفين لو كان ابناً شرعياً لاختلف الأمر.. هل تريدين أن تفقرينني أنني متأكد أن كل النساء اللاتي ولدن زنوة سوف يحملن أولادهن إليَّ قائلات أنني أباً لهم.. كلا لست مغفلا.
-
ولكنك فعلاً أبا لهم .. أباً لكثيرين أم أنك تنسى بسرعة .. وهل نسيتني مثلاً .. الطفلة التي جعلتها امرأة على أكياس دقيق فارغة.. في هذه الزاوية .. كم أصبحت أكره رائحة دكانك العفنة.. ولكني عندما كنت غريرة كنت أظن أنها أعظم الروائح طيبة .. لا زلت أتذكر كل شيء يا عبده .. ولكن وللأسف كنت سعيدة .. جداً معك .. الجميع يعرفون أنك " رجل " لكن لا تملك قلب الرجال .. أنك حيوان ضخم .. لا تملك قلبا.
كانت تتحدث ودموعها تسيل .. وهو ينظر إليها وفي أعماقه يتحرك الحيوان وتذكر عندما كانت طفلة أنها لم تكن جميلة كما هي الآن وأنه لم ير ى امرأة تبكي أمامه.. كم هن جميلات النساء وهن يذرفن الدموع .. وكم هي جميلة الآن " طائتو " هذه .. أنه يتمناها.. يريدها..
كانت عيناه مفتوحتين.
لا أملك قلباً .. أنا .. آه لو تعرفيني فقط لماذا أشقى كل هذا الشقاء.
لماذا أتعذب واقتل نفسي، إنني أملك قلباً طاهراً أنني أريد أن أعيش في قريتي أريد أن أموت وقد صنعت أشياء كثيرة طيبة لابني ولزوجتي، كلا يا " طائتو " أنك لا تعرفين شيئاً، سأذهب إلى الحج، ستغفر كل ذنوبي، سأعود إلى قريتي، وهناك سأبقى دائماً في المسجد أتعبد أذكر الله صباح مساء الله أمرنا يا (طائتو ) أن نعمل كل ما نستطيع عمله، ولأولادنا، نعم أولادنا الشرعيين، أن لدي ابن واحد فقط، أما هؤلاء فقد خلقهم الله ويتكفل بهم وإلا لما خلقهم، لماذا يخلق الله " الزنوات " ما دام لا يتكفل بهم، لست أنا المسئول الله يعلم ذلك. لكنك جميلة يا ( طائتو ) جميلة جداً وأنت تبكين.
-
أرحم هذا الطفل .. أشعر بقليل من الحنان بعد أن فقد أمه .. الأخريات لهن أمهاتهن .. وهن لسن في حاجة إليك أن لدي كل منهن عملها .. وكلهن لا يطمعن في دكانك هذا الحقير.
كان عبه ينظر إليها.
-
كن إنساناً مرة واحدة.
ذهب عبده إلى باب الدكان، أغلقه وهو يقول:
-
اسمعي دعينا نفكر في الأمر، أنني لا استطيع هكذا أن أقبل أن يكون لي ابناً من السماء، أنت تعرفين هذا.
واقترب منها كانت تظن أنه تريد أن يقول لها أشياء أخرى ومن خلال دموعها رأته يقترب منها، يضع يديه على كتفها يضمها إليه بقوة. وشعرت بالحرارة ونفذت إلى أنفها رائحة الدكان من خلال شعر صدره الكثيف وعادت إليها كل الذكريات البعيدة، وفاطمة التي ماتت بالأمس، ومسحت دموعها، ابتعدت عنه، نظرت إليه بحنق، ثم قالت:
-
هناك آلاف السكارى الأغبياء يملكون قلوباً من ذهب، هناك فقراء لا يملكون " فرنكاً " واحداً لكنهم يبيعون أنفسهم ليعيش أبناءهم حتى ولو كانوا (أولاد حرام).
-
أما أنت، (وكان يقترب من جديد).
-
أما أنت فمجرد حيوان.
وشعر عبده بيدها تهوي على وجهه.
تهوي بشدة، بعنف، مرات ومرات وصوتها يتردد مع اللطمات المتتابعة: كلب، قذر، حمار سوف أريك، سوف أفضحك أيها الحيوان.
وعندما استعاد نفسه، كان وحيداً في الدكان، وآثار عطر جعل الحيوان يصرخ في أعماقه، ومضى إلى الداخل، كان يشعر بطعنات حادة تمزقه، هو الرجل القبيلي تصفعه امرأة . هو. عبده الذي لم يسمح لأحد.. أن تهينه امرأة مومس بنت حرام تصفعه لا مرة واحدة، بل مرات، هذه التي عرف جسدها كل الرجال تهرب منه.. لأول مرة يرى امرأة ترفضه، بل وتهينه أيضاً، يا لها من مومس، لقد قالت منذ قليل أنها تحبه المعلونة إنها تريد أن تبتز ماله أو تسرقه أن ( تربطه) بابن حرام. آه سوف ينتقم منها، نعم سوف ينتقم منها هذه (النعجة) لقد أتت لتغشه، تظنه مغفلاً، ها، هاها.
يا لها من ابنة حرام.. إن شغلها أن تغش الرجال ولكنه لا يشبه الآخرين أنه قبيلي سوف يشرب من دمها .. وأخرجه من هذيان دخول أحدهم قائلاً:
-
أعطيني سيجارة وكبريت.
ودون أن يفكر كان يجيب:
-
لا يوجد شيء.
ولكن الرجل ظن أن عبده نسي أن معه سجائر فقال.
-
السجائر هنا .. مالك اليوم.
وصرخ في وجه الرجل:
-
أقول لك لا يوجد شيء .. اذهب إلى الشيطان.
-
ولكن..
-
ألا تسمع لا أريد أن أبيع، أنا حر.. أريد.. أطلع من دكاني.
وخرج الرجل وهو يتمتم.
-
عجيب سبحان مغير الأحوال.. عبده يفقد ابتسامته لقد جن الرجل.
وقابل الرجل أحد عملاء الدكان.
وراحا في همس طويل وهما ينظران إلى عبده ذو الوجه المحمر.. وشفتيه اللاتي لا تكفان عن التمتمة .. وكانا يريان يديه وهما ترتفعان في الهواء بغضب.
-
لقد جن.
-
نعم كنت أفكر في هذا من زمن طويل على أنه مجنون.. منذ زمن بعيد.
-
نعم.. يجب أن نحذر الناس.
-
كان يمكنه أن يقتلني لو رأيته يصرخ في وجهي نعم أنه مجنون.
مسكين لو نعرف أهله لطلبنا منه أن يأخذوه إلى المستشفى.
أما عبده فقد كان في عالمه يهدد ويتوعد تلك التي أعادت إليه فجأة كل شعوره القبلي بأنه رجل وقد أهانته امرأة وهذا معناه أن الإهانة لا يغسلها إلا الدم.
الفصل الثالث
كانت " طائتو " تتكلم بحرارة.. والسيد أمين يستمع إليها ويهمهم بكلمات غير مسموعة .. وكانت دموع تتساقط من عينيها والسيد ينظر إليها بحنان ويقول:
-
لا تهتمي أيتها الفتاة الله يعيد الأمور إلى مجاريها.
لكنها كانت مستمرة في حديثها:
-
أرجوك يا سيدي .. أنني أعرف أنني مسيحية وأن دينك غير ديني. وكلنا بشر.. وهذا الطفل لا أستطيع وحدي أن أتكفل به، أنت تعرفني أنني أعمل كخاطئة.. ولكن ماذا أستطيع أن أعمل يجب أن أعيش أن أبحث عن لقمة خبز.. غدا سأكون قد فقدت شبابي ولن أجد أحد ينظر إلي.. لهذا يجب أن احتفظ ببعض النقود تفيدني في أي وقت عندما أفقد .. الأصدقاء الذين يترددون اليوم على بيتي. أنني أعرف أن أحدا لن يقبلني زوجة له ولكن.
ونظرت إليه من خلال دموعها .. كان يتمتم وحبات المسبحة تتساقط في تناغم موسيقي عذب وهمت بتقبيل يديه.. لكنه سحبها منها بسرعة.
وقالت:
-
اغفر لي أنني أزعجتك إلا أنه يجب علي أن أقوم بذلك. أتغفر لي يا أبتاه.. أنك الوحيد الذي يستطيع أن يقنعه.
كان السيد أمين.. في الحلقة الخامسة من عمره ذو لحية كثة.. ووجه يتألق منه النور.. وعلى جبهته علامة سوداء من أثر السجود كان طيبا يستقبل كل ما لديه شكاية في أحد ويحل الكثير من المشاكل وكان يقصده الكثيرون مسلمون ومسيحيون.
بعد الذي حدث بين عبده سعيد وبينها فكرت " طائتو " كثيراً في أن تتوجه إلى السيد/ أمين وقد شكت له مشاكلها، ووعدها في النهاية بأن يساعدها بقدر الإمكان وكان يتحدث معها وهو يرسل حبات مسبحته. أيتها الفتاة، لا تهتمي بشيء الله سبحانه وتعالى موجود، وهو رحيم بعباده، إن الله لا ينسى عباده اذهبي إلى منزلك، وسيكون كل شيء على ما يرام جففي دموعك واذهبي.
كانت " طائتو " تستمع إليه، وتريد أن تقول كل شيء فهي لم تعرف الكنيسة إلا عندما كانت طفلة، أرادت أن تعترف للرجل الشيخ الجالس أمامها بوجهه المضيء بكل الأخطاء التي ارتكبتها. أرادت أن تقول له أنها تحب عبده سعيد إلى درجة الجنون.. كان الشيخ يمثل لها الأب والراهب ورسول الإله، ظنت أنه سيقول كلمات لربه ليمحو خطاياها، كانت تنظر إليه وأمل يلمع في عينيها.
-
يا ابتي ادع لي ربك الطيب. ليأخذ بيدي ليرحمني.
ابتسم الشيخ وقال وهو يعد حبات مسبحته الكهرمانية:
-
الله يتقبل الدعاء ما دمت تريدين مخلصة أن تتوبي- اعملي الطيب واتركي الخبيث، والله غفور رحيم أريد أن أقول شيئاً لا تقولي لأحد أنك كنت عندي دعيني اتصرف.. والله سيلهمني بكل شيء لا تنسي هذا والآن اتركيني أفكر، أذهبي وكوني طيبة.. أعبدي الله الواحد القهار الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
أذهبي.. لك السلام .. لك السلام.
خرجت " طائتو " وفي أعماقها أمل ينمو هل سيغفر الإله لها أشياء كثيرة.. ربما .. الله بالنسبة لها واحد.. رب للجميع أليسوا جميعاً بشرا أبناء لآدم وحواء.. يا ريت هذا الشيخ يدعو ربه ليأخذ بيدها أنها تعرف بأنها تعيش في الوحل.
..
ولكن ما الذي يمكنها أن تصنعه أنها ستموت حتما من الجوع.. إذن فلينتظر الله أن يخلى منزلها من العملاء نعم لتنتظر إلى أن يكون الجميع قد ملوها عندها ستكون قد اقتصدت بعض الدراهم وربما بعدها تفرغت لله.. لقد قال الشيخ إن الله غفور رحيم.. الله يعلم بمالها بل أنه هو الذي رسم لها هذا الطريق: كانت تسير وهي تفكر.. ونظرت إلى السماء وكلها دعاء ورجاء وأمل ما ينمو وينمو.. وكان الربيع يحتوي أديس أبابا فيحولها إلى حديقة جميلة .. رائعة.
صاح السيد/ أمين بابنه قائلاً أذهب إلى الحاج عبد اللطيف قل له أنني أريد أن أراه الآن .. أسرع.
كان السيد يفكر أن أمامه حياة إنسان عليه أن ينقذها من الفناء.. من الضياع. كان السيد أمين قد ترك اليمن عندما كان في العشرين من عمره.. تعلم في مدارس " جبلة " علوم الدين والفقه.. ووجد الحبشة مكانا واسعاً أيضاً واتباعاً كثيرين. وعندما بلغ الأربعين كان قد اعتزل الناس في بيته الكبير المكون من عشر غرف، وحوش كبير كان يجلس دائماً في غرفته التي قسمت إلى قسمين قسم خاص به لا يدخله أحد حتى زوجته يعتكف فيها نصف شهر يقدم له الطعام من خلال نافذة صغيرة.. ويبقى يتعبد ويقول أتباعه أن الملائكة دائما ما تزور زاويته وتتحدث معه وقد سمعوا أصواتا رقيقة ناعمة وعذبة تحدث السيد عن أشياء كثيرة في الدين.
وكلما خرج السيد من عزلته تلك كان يبدو أكثر ابتساماً، ومرحاً ويقول أشياء غامضة يفسرها أصحابه بأنه ينقل أحاديث الملائكة. وكان يخصص النصف الثاني من الشهر لمقابلة الناس وحل مشاكلهم، ونصحهم وتعليمهم مختلف تعاليم الدين فهو لم يخرج من غرفته تلك مدى العشر سنوات الأخيرة، ولا أحد يعرف كيف يغتسل وأين يقضي الضروريات، وهم يرونه دائما أبيض الوجه نظيفاً إلى درجة اللمعان أما كيف ومن أين يعيش فأتباعه يقولون أن الملائكة تحمل للعائلة شهرياً كل محتاجات المنزل، والحقيقة أن أحدهم كان يرسل إليه مع مطلع كل شهر كل المحتاجات ويستلم ثمنها طبعاً من آخرين مجهولين وكان السيد يقول – كل ذلك من بركات ربي وسعت نعمته.
وبالرغم من اعتزاله في منزله إلا أنه كان معروفاً في كل أديس أبابا وكان منزله دائماً قبلة الناس في أيام الأعياد ولا يستطيع أحد أن يحصي عدد الهدايا التي تقدم بهذه المناسبات.
وكان السيد لا يذهب إلى المسجد لصلاة الجمعة وعرف في أديس أبابا أنه لا يسمع له صوت في خلوته بمحرابه الداخلي – ثم سمع أنه يحضر صلاة الجمعة دائماً في مسجدين اثنين في الشهر في المسجد الأقصى حيث أسري بالنبي ومرتين في مكة، وأخرى في المدينة أما كيف يصل إلى هناك، فقد اختلف الرواة، فبعضهم يقول أن الملائكة تحمله وهو يلبس ملابسه البيضاء التي تشبه ملابس الملائكة وتطير به إلى هناك حيث يؤدي فريضة صلاة الجمعة – والبعض الآخر يقول أن حصان النبي – البراق – الذي أسرى به إلى السماء يأتي ليحمله وبالرغم من اختلاف الروايات إلا أن الجميع متفقين اتفاقا كاملاً على أن السيد يؤدي الصلاة هناك حاضراً، وقد شك بعض الأتباع وكثيرا ما يوجدون وسط الشباب فترقبوا دخوله إلى محرابه، وقد اختلفت رواياتهم أيضاً فالبعض يقول أنه لم يسمع له أي حس كأن أنساً لا يوجد في المحراب، كذلك لم يقدم له أي طعام وآخرون قالوا، أنهم سمعوا بعض الأصوات الخفيفة، فسرها الآخرون بأنها همسات الملائكة التي حضرت لتأخذ السيد إلى القدس، الشيء الأساسي أن الجميع كانوا مختلفين – ومتفقين بشيء واحد هو أن السيد أكثر من ولي أنه روح طاهرة.
دخل الحاج عبد اللطيف وقبل يد السيد باحترام وجلس بهدوء وهو ينظر إلى فم السيد الذي يتابع سقوط حبات المسبحة.
ظل صامتاً مدة، وهو ينظر إلى الحاج بعينيه الواسعتين، حتى أن الحاج أحمر وجهه عدة مرات وفكر يا ترى لماذا ينظر إلي. ترى ما الذي يريده.
وقبل أن يستمر في تفسيراته قطعها السيد بقوله:
-
نعم يا حاج لك الحق في أن تتساءل لماذا دعوتك اليوم – ولكني لا كما تظن في نفسك الآن ولكن لسبب آخر.
كان الحاج يعرف أن السيد يقرأ أحياناً ما يدور في نفس الإنسان فبدأ يصف نفسه على استعجاله بإبداء التشكيك في سبب دعوته وبدأ يلوم نفسه إلا أن السيد مضى يقول:
-
ولا داعي لكي تلوم نفسك فالله سبحانه وتعالى يعلم ما في ضمير عبده الإنساني ولقد دعوتك لكي نتشاور في أمر يهم الله ويهم دينه الحنيف.
وبدأت علامات الفضول ترتسم في وجه الحاج عبد اللطيف، بينما مضى السيد في حديثه وحبات المسبحة تتساقط كأوراق الخريف.
-
نعم أمر مهم يتعلق بمصير إنسان.
لقد علمت بهذا الأمر عندما كنت في خلوتي سمعت صوت عذبا يقول لي " يا سيد أمين كيف تترك إنساناً مسلماً في أيدي النصارى ولا تسرع لإنقاذه " أيكون هذا وأنت تعيش، فكيف إذا مت.. أنت يا سيدي مسئول عن عبدالله وقد أجبته قائلاً: " مولاي وسيدي من أين لعبدك المسكين أن يعلم ما دام هاجعاً في عبادتك، متضرعاً طالباً مغفرتك، مولاي أنني عبد فقير إلا في حبك " وقد أجابني الصوت قائلاً " لا باس عليك نحن نعلم ما في القلوب ولكن رأيت أن أحذرك، وأقول لك أن عبادة الله وحدها لا تكفي وإنما إنقاذ أرواح المسلمين من النار هو الأهم، ألا فأعلم أن عبده سعيد قد عصى وارتكب معصية فقد زنى بامرأة يقال لها " فاطمة " أنجبت منه ابنا، وقد اخترت ( فاطمة ) إلى جواري بعد أن تعذبت في الدنيا من مرض أصابها، وقد تركت أبنها الذي ولد بالحرام ولكن من أبوين مسلمين لكافرة فأسرع يا سيد بإنقاذ روح هذا الإنسان المسلم تفز بالرحمة ".
كان السيد يتحدث بصوت مهيب لكنه عذب وهو يصوب نظرات حادة إلى الحاج الذي خفض نظراته إلى الأرض وراح يهز رأسه وهو يردد في أعماقه:
-
يا سبحان الله .. اللهم رب العرش العظيم،
ما أعظم قدرتك وأجل شأنك يا من تعلم المخفي وتظهر الأسرار.
واستمر السيد في حديثه.
-
وهكذا يا حاج عبد اللطيف أظهر الله أمراً كان مستوراً لفائدة يريدها للإنسان، وقد قلت للصوت العذب.. أنت تعرف أيها الرب بأن عبدك المسكين لا يهيم إلا بك لا يعرف كل الناس في هذه المدينة الكبيرة، وذلك لتفرغه لعبادتك وطلب المغفرة منك، وقد أجابني الصوت العذب " نحن نعلم كل شيء فقم بساعتك وأدعو إليك عبدنا الطيب الحاج عبد اللطيف وأحكي له كل ما قيل لك "
كان الحاج عبد اللطيف يسمع ذلك وفي أعماقه سرور عظيم أذن فالله سبحانه وتعالى يعرفه بل ويطلب من السيد أن يستعين به.
-
يا الله .. يا عظيم يا رب، معنى ذلك أنني إنسان طيب وان الله راضي عني ما أوسع قدرتك يا إلهي.
وقاطعه صوت السيد أمين:
-
لا تغتر يا حاج عبدا للطيف – إن الله لم يرد إلا أن يمتحن إيمانك وقدرتك على تحقيق ما يريده.. أنه امتحان عسير يا حاج عبدا للطيف والفوز لمن خرج منه برضاء الله وعفوه، فقم لساعتك وأذهب إلى هذا الرجل ولا تقل له أي شيء مما قلته، أنه سر بيننا، حاول بقدر الإمكان أن تتصرف وأن تقنعه وإن لم تستطع.
ونظر إلى الحاج نظرة ثاقبة وبصوت جهوري هز قلب الحاج هزا عنيفا قال:
-
وإن لم تستطع – فإن الله ينتظر نتيجة امتحانه لك.
وهز رأسه وراح بيد يعد حبات المسبحة الطويلة.. وبيد أخرى يساوي شعر ذقنه الكث المصبوغ بالحنى.
-
إنني أحسدك يا حاج على هذه النعمة.. ولكني واثق أن الله قد وضع ثقته في الرجل الصالح.
كان الحاج يفكر بإمعان .. وفي أعماقه فرح طفولي .. كان يريد أن يجري إلى الخارج أن يصيح بكل واحد قائلاً:
-
أيه اسمعوا .. أن الله يعرفني أن الله يختارني أنا بالذات لأنقد إنساناً من أن يكون نصرانيا- واستمعوا لي أن الله يحبني.
وقبل أن يمضي بأحلامه بعيداً كان صوت السيد يقول:
-
لقد قلت لك لا تغتر يا حاج. أن حب الله لك لا يعني أنه يتغاضى عن أي شيء تقوم به، بل واضع عينه عليك وهو لا يسهى ولا يغفل. فكن على حذر قم إلى عملك الذي أصطفاه لك الله ثم بارك لك في مالك وذريتك.
قام الحاج وقبل يد السيد الذي كان يحاول بكل جهده سحب يده وقبل أن يغيب الحاج قال السيد:
-
ولا تنسى يا حاج أن تمد يد المساعدة لتلك المرأة التي آوت هذا الطفل خرج عبد اللطيف والدنيا لا تسع فرحته.. وكان يسير وهو لا يحس بشيء مطلقا وبالرغم من أن عشرات الناس كانوا يلقون عليه التحيات .. إلا أن لم يلمح أي شيء .. مضى وكأنه يطير – وكان ينظر إلى السماء وملئ عينيه دموع فرح وشكر بامتنان.. كان الحاج رجلا قصير القامة ممتلئ الجسم ذا لحية سوداء صغيرة.. في الخامسة والأربعين من العمر أثر السجود ظاهر فوق جبهته. وكان أحد أغنياء اليمنيين في أديس أبابا وأحد قادة " الجالية " فيها كما كان له دور في ثورة- 1948 – إذ أن كان أحد كبار الأحرار اليمنيين وهو لا يزال حتى الآن يؤمن بهم .. بل ويقدم لهم الكثير من المساعدات.
كان يسير وهو يفكر كيف سيحكي غدا لأصدقائه .. ولكن لما غدا بل الآن.. كلا .. عليه أن يقوم بالمهمة قبل كل شيء .. نعم .. إنه يستطيع أن يجد هذا الرجل فهو يعرف الكثيرين من اليمنيين .. فعليه أن يبدأ بالبحث والسؤال عنه عند اليمنيين.. وعندما دخل دكانه اقترب منه سكرتيره وقد له الحسابات كالعادة.. ولكن الحاج نظر إلى السكرتير وابتسم قائلاً:
-
يا ابني قم بالعمل وحدك .. أنا لدي مسألة هامة أوكلها إلي الرحمن .. دعني الآن..
نظر السكرتير إلى الحاج باستغراب..
لكن الحاج مضى قائلاً:
-
لماذا تنظر هكذا .. أوه أنت لا زلت شابا يجب أن تعرف أن الله سبحانه وتعالى لا ينسى عبدا من عباده .. وقد تذكرني.
مضى السكرتير وهو يبتسم فهو يعلم أن الحاج كان عند السيد لكنه عاد بعد قليل قائلاً للحاج:
-
هل تريد أن تأمر بإرسال شيء للسيد.
-
الله يهديك .. ما شاء الله.. أن الله من حبه لي وضع عقلا طيبا في رأسك.. أسرع وأرسل أحسن البخور. وعطر. وقماش و.. وراح يعدد أشياء كثيرة .. والسكرتير يبتسم وهو يسجل بينما قال الحاج:
-
نعم إنه ولي .. من أولياء الله الصالحين لو كان لدينا مثله يا ابني لتحررت اليمن من زمان ولكن ما العمل وكل الشباب أمثالك تخلوا عن الدين: لقد غضب الله علينا بسببكم.. لكن الله لن ينسى عباده.
وجلس على كرسيه خلف المكتب الفخم .. وراح يحلم بالجنة.
الفصل الرابع
لم يكد يخرج الصباح حتى كان الحاج عبد اللطيف يدور في مختلف دكاكين – المركاته – يسأل عن من يعرف عبده سعيد وفي النهاية دلوه على دكان صالح سيف.
كان الحاج عبد اللطيف يقوم بمهمته وهو يشعر برضاء تام وتفوق على الآخرين.. حقيقة فقد كلف مرات كثيرة من قبل حزب الأحرار أن يقوم بأعمال كبيرة – تنظيم اجتماعات رئاسة الجالية، جمع تبرعات. بل وإلقاء خطب حماسية يختلط فيها الدعاء والدين بالحماس السياسي لتحرير اليمن.
دخل دكان صالح وهو يرسم على شفتيه ابتسامة كبيرة بعد التحايا والابتسامات .. دخل الحاج في موضوعه قائلاً:
-
يا سيدي العزيز قد أتيت إليك في مسألة هامة جدا .. وهي تحتاج إلى تعاننا وتكاتفنا لأن الموضوع يهم ديننا وبلادنا.
منذ أن دخل الحاج إلى الدكان كان صالح سيف يفكر بأن الحاج لم يأتي إلا لطلب تبرع جديد وعندما بدأ حديثه تأكد لدى صالح سيف وبدأ يفكر بأي طريق يتخلص منه.. أنه يعرف الحاج شخصاً طموحاً ولن يرضى مطلقاً بتبرع صغير، وكان عقل صالح يفكر بسرعة، وهو يدعو الله أن يخرجه من الأشكال الجديد الذي هبط عليه فجأة .. حقيقة أنه أحد المؤمنين بفكرة الأحرار وكثيرا ما دفع لهم تبرعات وقرأ جرائدهم ومنشوراتهم، وعندما قامت الثورة كان من الناس الأكثر تحمساً لها بل أنه فكر جديا بالعودة إلى اليمن وبدء حياة جديدة في ظل الثورة.
ولكن الثورة ماتت في مهدها ومضت السنين وصالح سيف. يفقد إيمانه يوما بعد يوم بقيام ثورة جديدة وإصلاح الأحوال في اليمن. وكان دائماً يبدي تبرمه من قضية التبرعات التي كثرت .. لكنه دائماً ما يقدمها وهو يعرف الآن بأن الحاج ما دام قد حضر بنفسه.. وخاصة على شفتيه هذه الابتسامة فإن الأمر يحتاج إلى مبلغ كبير وهذا ما كان يخيف صالح سيف.
لكن الحاج عبد اللطيف مضى في كلامه:
-
أنت تعرف أن إعطاء ابن من أبوين مسلمين إلى الكفار لتربيته يصنع من الطفل عندما يكبر كافرا مثلهم.. وديننا الحنيف يأمرنا بإنقاذ مثل هؤلاء.. والذي أتيت من أجله .. هو كي أقول لك أن الأمر لم يعد خافياً.
كان صالح يفكر.. ما دخل طفل بالدين والوطن لكنه صمت حتى تتبين الحقيقة.
-
وهكذا فإن عبده سعيد وأنت تعرفه قد ارتكب الزنا مع امرأة مسلمة وولدت له ابنا وقد ماتت المرأة تاركة طفلها في أحضان امرأة مسيحية سيئة السلوك والأخلاق، وقد أتيت إليك لنتباحث في الأمر حتى ننقذ هذه الروح الصغيرة ونعيدها إلى الإسلام.
وتنفس صالح سيف حامدا الله على أن الأمر ليس فيه تبرعات جديدة. وهز رأسه قائلاً:
-
أذن دعنا نذهب إليه ونكلمه في الأمر ليأخذ ابنه ويربيه. فكر صالح قليلاً
-
أنت تعرف عبده سعيد؟
-
نعم!
-
أذن دعنا نذهب إليه ونكلمه في الأمر ليأخذ ابنه ويربيه.
فكر صالح قليلا ثم قال:
-
نعم ولكن هل تعتقد أن عبده سعيد سيعترف أن هذا الطفل طفله.. أنا أعرف هذا الرجل. أنه طيب ومعه امرأة في القرية وابن وله أكثر من أربع عشرة سنة هنا ولكن لا اعتقد بأن الرجل سوف يعترف بأن الطفل ابنه أنه مسلم وتقي ولا اعتقد أنه سيعترف بأنه اقترف بالزنا.
ضحك الحاج وقال:
-
عجيب الأمر ليس اعترافا أنت تعرف أن لا أحد من اليمنيين في الحبشة إلا وقد عرف أكثر من امرأة.. هل يعقل أن يظل رجل سنوات دون أن يقترب من امرأة – المغفل كان يجب أن يحذر حتى لا ينجب أولادا في الحرام أما وقد عملها، فلا فائدة لا بد له من احتضان الطفل.
-
الأمر ليس بسيطا هكذا.. نأتي إليه لنقول له بأن هذا الطفل ابنه ثم هز رأسه بحيرة ونظر إلى الحاج مستفهماً.
-
ولكن من أين علمت أنت بهذا الأمر؟ من الذي قال لك ذلك؟
ابتسم الحاج عبد اللطيف وأراد أن يقول للرجل كل شيء وكيف أن الله اختاره هو بالذات لتأدية هذه المهمة، ولكنه تذكر تحذير السيد له. فقال بصوت هادئ وصارم كالذي يوحي لك بأنه يعرف أشياء نتيجة لقوة سحرية ملهمة.
-
أن الأمر لا يخفى على الله وعلى المؤمنين.. إن الله يحصي على خلقه أنفاسهم فما بالك برجل أنجب طفلا في الحرام.
هز صالح سيف رأسه كأنه اقتنع بالإجابة.
-
أذن أنت ترى أن نذهب للرجل ونحدثه، أنا لا أمانع وخاصة أن يستمع لك أنت بصفتك رجلا كبيرا ومعروفاً بيننا.
-
ولكن كيف نفتح له الموضوع؟
قال الحاج مفكرا.
-
الله معنا .. إذا أراد الله شيئاً فلا بد من أن يتحقق.
مضت السيارة تنهب الطريق من المركاته – إلى – سدست كيلو – وقد خيم صمت على الاثنين وكل منهما كان يفكر بالطريقة التي يمكنها أن تقنع عبده سعيد، فصالح سيف يعرف تماما بأن الرجل " بخيل فهو يراه دائما بنفس البدلة، وحتى الآن بالرغم من أنه يكسب كثيرا فهو لا يهتم بنفسه ولا يعرف أين تذهب نقوده فهو قليلا ما يزوره خاصة في الأعياد ثم أن عبده سعيد لم يهتم مرة في حياته بأمر اليمن وتحررها.
فكم رآه يقلب الجرائد عنده دون أن يفكر حتى بقراءتها – ولم يدفع مرة تبرعا أو يحضر اجتماعا للجالية .. كان يعيش منعزلا يدخل – المركاته – مرة في الشهر لشراء ما يحتاج إليه الدكان ثم يعود من جديد .. بل أن صالح سيف لم يفكر مرة واحدة بزيارته ولا يعرف حتى أين يقع دكانه وفي أي شارع؟
في الحقيقة لو لم يكن حديث الحاج هذا لما فكر في زيارته أو حتى فكر في أمر هذا الرجل.
-
أسمع هل يكسب عبده هذا .. الكثير؟
كان السؤال من الحاج الذي يقود السيارة.
-
والله كيف أقول لك؟ لا بد أن يكسب كثيرا ولكن لا أحد يعرف أين تذهب نقوده.
-
ألا يرسل لأهله مصاريف؟
-
والله لم يحدثني مرة .. أنه نادرا ما يزورني في الأعياد لكنه سرعان ما يمل مقيلنا ويذهب.
-
هل هو رجل تقي؟ يصلي ويصوم.
-
أعتقد أنه تقي.
-
إذا كان تقياً فأين تذهب نقوده أذن؟ لا بد وأن الرجل يشرب الخمر فالخمرة أم المصائب وفيها تضيع كل نقوده.
ولم يجب صالح سيف فهو لا يعرف ذلك لكنه ابتسم بسره – وقد علق سكرتير الحاج عبد اللطيف فيما بعد عندما سمع برأي الحاج في الخمر قائلاً " في لساننا نقولها.. ولكن بقلوبنا نعبدها هذه الصهباء " ثم غمز لجلسانه " أن الحاج يعرف كيف يتخلص من تهمه " ولكنه ينسى أن يبتلع – نعناع – وهو يحاسب مساء كل يوم.
-
مالك صامت.. ما دام الرجل يزني وينجب أطفالاً في الحرام فلا يهمه أن يشرب الخمر أليس كذلك؟
-
كيف أقول لك.. أنت بنفسك يا حاج أن الكثير منا .. واستدرك قائلاً أعني اليمنيين يعرفون مختلف النساء فهل معنى هذا أنهم أيضاً يشربون.
ولكن الحاج أجاب بسرعة:-
-
أنا قلت عن هؤلاء الشباب أولئك الذين لم يتزوجوا .. أما نحن والحمد لله فلدينا عوائلنا وأولادنا ولا نحتاج إلى ارتكاب المعصيات استغفر الله العظيم منها.
ولكن صالح كان يقهقه في داخله – أنه يعرف تماماً من هو الحاج عبد اللطيف ويعرف جماعته أيضاً وود لو قال للحاج " وأنت ألم تعرف الخمر يا حاج " لكنه صمت لأن السيارة وقفت في أحد شوارع " سدست كيلو " الهادئة وصاح الحاج بأحد الأحباش المارين قائلاً:
-
ألا تعرف أين يقع دكان عبده سعيد .. كيف لا يعرف!! وهل هناك أحد في هذا الحي لا يعرف دكان عبده!!
وقفت السيارة أمام باب الدكان كان الوقت يقترب من الظهر.. وشمس ربيعية ترسل أشعتها لتخترق أوراق الشجر النائمة على نوافذ الشارع فترسم على الأرض صورا جميلة.
ولمح أطفال كانوا يلعبون في أطراف الشارع السيارة وهي تقف كما رأوا الحاج وصالح يخرجان منها ويتجهان إلى الدكان كان هذا بالنسبة لهم منظرا جديدا فكم من الأيام مرت لم يروا فيها أحد يأتي بسيارة أو حتى دونما سيارة إلى دكان عبده سعيد، ومضوا مسرعين وهم ينظرون إلى ملابس الضيوف الأنيقة والجميلة وعلى شداتهم الجميلة التطريز.. وهمس أحدهم.
-
لماذا لم نر عبده بمثل ملابسهم.
ولم يجب أحد منهم بل ظلت عيونهم معلقة بالرجلين وهما يصافحان عبده وعلى شفاههم ابتسامات ود.
طبعا لم يكن عبده سعيد يتوقع أن يزوره أحد في دكانه – الشيء الوحيد الذي لم يكن مطلقا ليفكر في إمكانية حدوثه فما بالك إذا كان الزائر هذا هو الحاج عبد اللطيف.
لذلك دق قلبه بقوة وهو يرى السيارة تقف ويخرج منها الحاج وصالح سيف.
ترى ما الذي قذف بهما إلى دكانه أي أمر دفع بهما إليه.
وعندما رأى الابتسامات معلقة على وجوهم شعر بالخوف أكثر، هل الأمر متعلق بتبرعات، يمكن .. ولم لا والجميع يعرفون أن الحاج من الأحرار – وهو المتحدث باسمهم، ولكن لماذا حضروا اليوم بالذات أن الحاج يجمع التبرعات من زمن بعيد، ولم يفكر بالمجيء إلي حتى صالح سيف عندما كان يذهب غليه لم يفتح له أي أمر، حقيقة أن صالح كان يقول له خذ هذه الجرائد، اقرأها أو يتحدث في مقابلة أيام الأعياد وعن تطور الأحوال في اليمن ويفند مزاعم حكومة الإمام. بل ويقذفها بالكثير من السباب واللعنات، لكنه لم يطلب تبرعا من أجل الأحرار، أذن الأمر ليس تبرعات قد يكون شيئاً آخر ترى ما هو؟
ظل الرجلان واقفين أمام عبده وكانا في حيرة ففي الدكان لم يكن يوجد أي نوع من الكراسي وفيما عدا سريره وأكياس الدقيق والأرز لا يوجد مكان يجلسون عليه وظل حائرا ترى هل يدعوهم إلى الدخول والجلوس على سريره أن ذلك لمستحيل فالغرفة قذرة.. والسرير، أي سرير مجر صناديق وبطانية قديمة ما العمل؟
وظل الرجلان حائرين أيضاً فالمكان صغير جدا.. ورائحة نسوها نسوها تماماً منذ أن كانوا يملكون قبل الحرب دكاكين – معطارة – صغيرة كهذه، بل أنهم لم يكونوا يتصورون أن يكون لهذه الدكاكين وجود.. كان كل شيء يبدو غير طبيعي.. فالدكان رغم صغره كان يعج بأشكال من البضائع في فوضى كاملة، والرجل الواقف أمامهم كان أيضاً شيئاً أسطورياً، بملابسه السوداء القذرة والتي تلمع بتأثير أنواع الزيت والسمن وأشياء تساقطت عليها..
كان الحاج في رأسه مقدمة طويلة وحاول بصلابة أن يتذكر آيات من القرآن وأحاديث نبوية ليدعي بها للرجل، لكن ذلك كله ضاع وهو يقف في الدكان أمام عبده الذي كان يحاول أن يبتسم، ولكن بخجل.
ومر بالدكان جماعة من عملائه، لكنهم سرعان ما عادوا وهم يرون الضيوف واقفين معه، وقال أحدهم لنفسه:
ترى هل اقبلوا ليأخذوه.. مسكين هل حقا أنه مجنون، لقد فقد ابتسامته منذ أيام لعلهم سيأخذونه إلى الطبيب ومضى وهو يهز رأسه بحسرة على مصير عبده.
قال الحاج وهو يتأفف من الرائحة التي زكمت أنفه خاصة وأن رائحة غداء عبده التقليدي كانت تفوح من الدكان مختلطة برائحة الصابون والزيت والسمن وكل أنواع البضائع ذات الروائح.
-
لقد أتيت إليك في مسألة ابنك.
كان صوته قويا صارما – وقال كلمته بإيجاز حتى أن عبده فتح فمه بدهشة .. وهم بأن يتمتم بشيء لكن الحاج استمر:
-
لقد علم الناس وعليك أن تأخذ ابنك وتربية أليس حراماً أن تتركه للكفار.. لامرأة غير شريفة .. للصعلكة والضياع.
عندما سمع عبده كلمة " ابنك " طار فكرة بسرعة إلى ابنه في اليمن لكنه تمالك نفسه وهو يسمع الكلمات الأخيرة وبدأ يعي كل شيء وكان صالح سيف ينظر إليه وهو يشعر بالقلق فالحاج قد دخل في الموضوع دونما أي تقديم ولكنه معذور.
وساد صمت ثقيل.
وكانت العيون تنتقل بسرعة خارقة إلى شيء.. صمت .. عيون قلقة تترقب.. وقطع عبده الصمت بصوت هادئ:
-
أذن لقد أتت تشكي إليكم.. لم أكن أفكر بذلك .. لم أكن اعتقد أنكم ستسمعون إلى مومس.. كنت أعتقد أنكم أناساً كبارا مفكرين..
ولكن.
وتوقفت أربعة أعين عن الدوران أن وجمدت في محاجرها.. ماذا يعني؟
ونظر صالح سيف إلى الحاج، وكان الدم يغمر وجه الحاج، كان وجهه احمرا بإهانة تمزقه!!
لكنه تمالك نفسه.
-
اتقى الله أيها الرجل، ماذا قلت لقد أتينا لننصحك نحن لا نريد أن يقول الأحباش عنا أننا نترك أولادنا في الشارع مع الكفار.
-
ومن قال لك أنه ابني..
وبصوت غاضب قال:
الله.. الله قال ذلك.
-
أذن دع الله يربيه.
قالها عبده بصوت جهوري.. وعيناه بدأتا تحمران.
-
ماذا .. استغفر ربك يا رجل هل كفرت.. الله يقول من عمل منكم سوءاً فليدرأه بحسنة.. أما أنت فتزيد السوء سوءا.
وهنا تدخل صالح سيف وهو يحاول أن يكون أكثر تعقلا..
-
يا جماعة حرام تتكلموا هكذا ما رأيكم .. هيا إلى الطريق.. الهواء يجعلنا نفكر بهدوء ما رأيكم هيا.
ومسك الحاج بيده وخرج به إلى الشارع كان الجو رائعاً والشمس دافئة..
-
اسمع يا عبده نحن من بلاد واحدة وابناء عم. وكلنا يمنيون وإذا حدث شر لأحدنا فهو شر علينا كلنا لذلك أتينا إليك، لا لنتشاتم ولكن لنتصافح كأخوة، ما رأيك؟
كان عبده صامتاً.
-
كل ما في الأمر هو أن الحاج يرى أن ترك الطفل بيد النصارى قد يؤدي بروح مسلمة إلى الكفر، ونحن طبعا كمسلمين نرى أن لا نترك أولاد المسلمين للجحيم.. أليس كذلك؟
نظر عبده إليه بهدوء وابتسم قائلا..
ولم تجدوا إلا أنا تأتون إليه.. وأنا الفقير لتقولوا لي هذا الكلام لماذا لا تنظروا إلى الآخرين.. كم من أغنيائهم صنعوا أولاد في الحرام، ها .. كم قولوا لي.
وبان القلق في وجه الرجلين لكن صالح استمر بهدوء:
-
لا يعلم إلا الله ما تقوله أما نحن فقد سمعنا بأمرك وأتينا إليك.
-
نعم سمعتم (قالها بسخرية) من قال لكم: هذه القحبة، أليس كذلك، وهنا قال الحاج وهو يكا أن يتفجر:
-
لا تتهم الناس.. لقد قال لي هذا الكلام السيد أمين.
وساد صمت رهيب. وحدق عبده في الرجلين وهو لا يصدق.
-
من. من. السيد.
-
نعم السيد أمين قال لي هذا الكلام.
-
ومن أين عرف؟ كيف؟
لم تكن الدهشة في وجه عبده وحده لكنا أيضاً سيطرت على وجه صالح سيف.. كان الرجلان يعرفان السيد ولكن كيف عرف بالأمر أنهم قد سمعوا عنه الكثير ولكنهم لم يكونوا يظنون أنه يعرف حتى خبايا الناس.
وعرف الحاج أن زمام المبادرة الآن بيده فقال:
-
أن السيد يعرف أشياء كثيرة، ولا يخفى عنه أي شيء.
-
ولكن لماذا اختارني أنا بالذات؟! هناك الكثيرون.
ولم يدعه الحاج يتم كلامه.
-
سيأتي دور الآخرين.
كان عبده يفكر بصعوبة ترى هل ذهبت طائتو للسيد ولكنه لا يقابل المومسات أنه رجل تقي ورع ترى هل أوحى إليه؟ معنى ذلك أن الله غاضب عليه وشعر فجأة بخوف رهيب.
-
ياجماعة،. ما العمل كيف ترون الأمر؟
-
لا شيء خذ الولد إليك وربيه.
-
لا استطيع.. لقد قررت ترك كل شيء والعودة إلى اليمن، كيف أجل زنوة معي.
-
العودة إلى اليمن.. لماذا؟
-
هكذا، سوف أعود إلى بلادي.
وضحك الحاج وقال:
-
أنظر أنه مجنون سوف يعود إلى اليمن.. أنه يظن أن هناك جنة وأن الأمام قد أصبح طيبا، يا رجل ما دام الوضع في اليمن هكذا فلن يستطيع أي إنسان أن يعيش هناك، أفهمني الأوضاع هناك متردية، لا فائدة من العودة إلا بعد الثورة.
-
لا تهمني الأوضاع سأعود إلى قريتي أفلح أرضي وأبقى مع زوجتي وابني.. كيف أحمل معي زنوة؟
-
قل لهم أنك تزوجت.
-
كيف أتريدوني أن أكذب عليهم. كلا، لا استطيع.. الله وحده يعلم أن كان هذا أبني أو لا.
-
يا رجل اتق ربك هل تعتقد أن السيد ونحن نكذب عليك.
كان القلق يمزق عبده، فهو لا يدري كيف يجيبهم، لقد وقع في مأزق حرج ولا يستطيع أن يخرج منه أنه يعرف ان الابن ابنه، ولكنه زنوة، ابن حرام كيف يرضى هو بأن يأخذه.
-
كلا يا ناس سوف تأتي كل النساء بعدها مع أولاد الزنا، سيقولون أيضاً أنني أبوهم.
ونظر الرجلان بعضهما إلى بعض، وكانا يبتسمان.
قال صالح بعد قليل.
-
متى قررت أن تسافر؟
-
إلى الحج، ثم بعد ذلك في آخر السنة، سوف أذهب القرية.
-
والدكان!
-
بدأت أفرغ الأشياء التي فيه.
-
وهل فكرت في الأمر تماماً؟
-
نعم أنني أفكر فيه منذ سنين، وأتيتم أنتم بهذه المصيبة
ضحك الحاج وقال:
-
نحن، من قال تضاجع النساء؟
-
أنني رجل.
-
وهذا قضاء الله..
وأضاف صالح:
-
وعقابه لك.
-
أيوه.. لا يعاقب الله إلا الفقراء أما الأغنياء...
وهز رأسه بحزن،
-
يا رجل الله لا يفرق بين عباده كل له عقابه،
-
وعقاب الفقير في المقدمة.
-
هل كفرت؟
كان حائراً،
وظل الرجلان صامتين، ولكن كل منهما يفكر بأشياء كثيرة. فالحاج بدأ يشك في كيفية معرفة السيد أمين لا مر عبده سعيد ألا تكون المرأة التي قال عنها عبده سعيد قد زارت السيد أمين في منزله وحدثته في الأمر، ولكن ذلك أمر صعب فهو يعرف أن السيد لا يستقبل الناس إلا نادرا ثم كيف يستقبل مومس تبيع نفسها للناس.
وفي أعماقه كان يصدق أن السيد أمين كذب عليه، ولكن لماذا أيضاً لا يكون ما يقول حقيقة ففي كلا الحالتين فهو سعيد قد قال الحقيقة فالله سبحانه وتعالى هو الذي أختاره لهذه المهمة التي بدت الآن فقط أنا صعبة ومتعبة، وأن كان السيد كاذباً فالسيد يتحمل التبعة وسينال هو – الحاج – الجزاء الطيب من الله.
-
ها يا عبده فيما استقر رأيك؟
-
لا أعرف.. الأمر صعب جدا.
وهنا قال مبتسما ومشجعا:
-
يا راجل.. الأمر بسيط فكر فيه تماما – اليوم وغد وسنعود إليك بعد أيام – أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا فأنت تنقذ حياة إنسان تضمه إلى الدين الحنيف بدلا من تركه في أيدي الكفار.
ومد يده مصافحا.. وكذلك فعل الحاج وبعد لحظات كانت السيارة قد اختفت في نهاية الشوارع. وعبده واقف أمام باب دكانه يفكر.
-
أجر.. أنهم يتحدثون عن الأجر وهم ملاعين يرتكبون الفضائح ولا أحد يقول لهم أنتم.. أما نحن الفقراء فإنهم يحصون علينا أنفاسنا.
أجر، إذا أرادوا إنقاذه ابن الكلب فليأخذوه هم- لماذا حكم على أنا، لعنة الله على الشهوة، من قال لها أن تحبل، أن تلد.. يا إلهي أستغفرك ولكن عبدك مسكين.
ولكن الله خلقه، وهو المتكفل به فإذا كان السيد أمين قد أوحى إليه الأمر فمعنى ذلك أن الله يعرف أمره وهو سيتكفل بأمره، نعم ولكن أنا أبوه الله يعلم، كلا، الله غفور رحيم ولن يأخذ فقير على ذنب يا رب سوف أحج سوف استغفر عن كل الخطايا، وسأبقى إلى نهاية حياتي تقيا ورعا أخرج عبدك من هذه " الورطة ".
وفي المساء لم ينم، كان قد ذهب إلى – الفيلا – وهناك قال لها كل شيء ابتسمت وهي تنظر إليه وهما فوق السرير:
-
أذن لقد عرفوا.. ماذا يهمك، تستطيع أن ترفض ما دمت لا تحمل في قلبك حبا أبويا نحو هذا الطفل المسكين، وما داموا يريدون إنقاذه من أن يصبح كافراً فليتكفلوا به هم.
كانت تحدثه وسخرية تملأها، وهي تنظر إلى الرجل النائم بجانبها.
-
يا لك من إنسان، تصنع أطفالاً للفقراء، أما لي أنا.. كم أريد منك طفلا، أوه يا إلهي، لو منحتني طفلاً، لذبحت لك أيتها العذراء كل يوم، ولصليت لك أيها القديس جرجس أمام عشرات الشموع المحترقة تحت تمثالك، لأطعمت المساكين أوه. أيتها العذراء، هلا منحتني طفلا؟
الفصل الخامس
كان السيد ينظر إلى الحاج عبد اللطيف ويهز رأسه وأخيرا قال بصوت حازم ورهيب وقد ترك مسبحته ترتمي على الأرض.
-
أذن لقد جلب على نفسه الدمار لقد ارتكب معصية ولا يريد أن ينفذ مشيئة الله سينتقم منه، نعم سينتقم منه أن الله لا يرحم أنه شديد العقاب.
دعه في غيه أن المعاصي تتراكم ولكنها تكون في النهاية طوفانا.. لقد جلس على نفسه الدمار، ولقد أعذر من أنذر.
كان يتكلم وكل لحيته تهتز، وقد احمر وجهه، وظهرت عروق يديه.
-
والآن يا حاج دعني اختلي إلى ربي أشكو إليه ظلم خلقه وفسادهم.. وتوجه أنت إلى الطفل أنقذه يا حاج أنقذ نفسا مسلمة من الكفر لقد اصطفاك الله لتنقذه لا تتأخر اذهب يا حاج.. اذهب.
وقبل أن يجيب الحاج عبد اللطيف كان السيد قد اختفى في زاوية وأسدل على نفسه الستار وفاحت من الداخل رائحة بخور عطرية.
وشعر الحاج بأن مصيبة قد حلت به؟ ما العمل؟ كيف يتصرف الآن أنه أمام أمر واقع.
ولعن في سره عبده سعيد، وكان يهم أن يلعن السيد أيضاً لولا بقية خوف ومضى إلى الدكان وهو مهموم.. أيضيف على عائلته الكبيرة طفلا لا يعرفه بل ولم يره مرة.. كل ذلك لكي ينقذه من الكفار، ما ذنبه هو؟ ألم يخلق الله هذا الطفل؟ أليس متكفلا به؟ إذا أراد الله أن ينفذ روحه من الكفر فلماذا وضعه في يد إنسان كافر؟
يا إلهي لقد اختلطت عليه الأمور ولم يعرف ما هو الحل؟
لقد وقع.. وعليه أن يخرج نفسه من المصيبة ولكن كيف؟ بالأمس رفض عبده سعيد رفضا باتا أن يحتضن الطفل وقال أنه ليس أبا لأحد بل وقذف بشتائمه الجميع وقال لهم أن لا يتدخلوا في شؤونه الخاصة هل كان على الحاج أن يتحمل " زنوة " لاخوانه ما شاء الله أذن على كل يمني في الحبشة أن يزني وينجب طفلا ليأتي هو – الحاج عبد اللطيف – ويخلص روحه من النار ألا لعنة الله على الجميع.. تكفيه مصائبه إنه إنسان متعب.. متعب.
ولكن هل سيسمعه أحد؟ وهل سيصدقون ذلك.
ابتسم سكرتيره وقال:
-
أذن.. ما الذي تأمرني بعمله.
نظر إليه الحاج بحنق قائلاً:
-
انك تضحك على المصيبة التي حلت بي أليس كذلك، لك الحق فلقد تصرفت بغباء.
-
ولكن لماذا؟ أنك في الواقع تساعد في تطور اليمن.
-
ماذا تقول؟
-
نعم أنك تنقذ طفلا لتصنع منه عدوا للنظام القائم حاليا في اليمن أي أنك تصنع ثور يا يهدم غد أركان الظلم هناك.
- "
أنك " سوف تربيه.
ابتسم السكرتير هو يبتلع الاهانة التي قذفها الحاج في غضبه وقال بل أنت ستربيه.
-
كأنني لم أهاجر إلى الحبشة إلا لأربي " زنوات ".. الله يفتح.
-
والسيد أمين ماذا ستقول له؟
لم يجب الحاج لكنه قال لنفسه.
"
دع ربه ينقذ الطفل من الكفر. أنا لم أخلقه، هو الذي خلقه " لكنه غرق في تفكير عميق.
كان السكرتير جالسا يكتب شيئاً ما على الآلة الكاتبة وكان في أعماقه يضحك على الحاج. فهو منذ أن عرف بقصة السيد حتى راح في كل مجلس يرددها بسخرية كأنه يريد أن ينتقم من كل سخريات الحاج عليه .. في الحقيقة بالرغم من أنهم يعملون مدة طويلة معاً وبالرغم من أن الحاج كثيراً ما يسخر منه بل أنه هدده بالطرد وشتمه أمام الجميع إلا أنه لا يستغني عنه مطلقاً وهذا ما يشعر السكرتير بقوته ويروح يعاند الحاج.
كانا مختلفين في تفكيرهما السياسي.. وكلما قام الحاج بجمع تبرعات – راح السكرتير بطلق في – المركاته – مختلف النكات والتعليقات أما الآن فقد رأى أن الأمر أصبح جدياً. لكم سخر من السيد أمام الحاج ولكن الحاج كان دائماً مدافعا عنه ولكن الأمر يتعلق الآن بمصير طفل.. وابتسم السكرتير.. أنه أيضاً مولد لذلك كان يشعر نحو هذا الطفل الذي لم يره بحب غريب أنه مثله ممزق لا يعرف وطناً ينتمي إليه أو تراباً يحتويه.. أنه غريب وسط مجتمع أغرب استخدم السخرية سلاحا له لينقذه من غربته التي
-
وتشعره بأنه يختلف عن الآخرين.
والده، يحلم بأرضه.. بالمستقبل هناك في اليمن عندما " يحرروا " اليمن من الظلم.. أن لديه أساسا يقف عليه وأحلاما تؤيده وتسده وأنه ليس غريبا بالرغم من أنه مهاجر قد يعود يوما إلى أرضه.. أنه مجرد مهاجر أما هو فمقطوع من شجرة لا جذور لها.. أنه " لا أحد " نعم (لا أحد).
وأمه .. أمه أيضاً كانت لها أحلام لها جذور ترعرعت فوقها ونمت وأثمرت لكنها وللأسف أثمرت شيئاً غريباً لا أصول له.
أن لها أرض ولها بلد.. تربتها التي تحتويها بحنان.. حتى التراب يعرف أبناءه.
أما هو فغريب، لا يستطيع أن يقول أنه يمني فهو لا يعرف اليمن لم يرها في حياته. سمع عنها الكثير ولكنه لا يعرفها ترى لو ذهب إليها كيف تستقبله لعلها تلفظه كما تلفظه هذه الأرض التي ليست أرضه، بالرغم من أنها أرض أمه، نعم أنه ويا للأسف ليس حبشياً.
أذن من هو؟ نعم أنا؟
يقولون عليه " مولد " وأين هي أرضه ؟ وأين هو شعبه؟ لذلك كان السكرتير ينظر إلى الطفل بحنان وبحب أيضاً أنه مثله، الفارق بينهم أن أباه يعترف به كابنه وهذا الطفل يرفضه أباه. أنه يعترف به ولكنهم أخوة! إنهم في مكان واحد. وفي شعب واحد، إنهم الضائعين الذين سيبقون دائماً معلقين في المنتصف يجذبهم حبل إلى مالا نهاية ولا يستطيعون مطلقا أن يحددوا مصيرهم فلذلك فهم غرباء حتى ولو وجدوا في النهاية المكان الذي يحتمون به.
نظر الحاج إلى سكرتيره وقال:
-
ها، هل وجدت حلا؟
ابتسم السكرتير وقال وعلى شفتيه ابتسامة كقلبه مليئة بالحب:
-
نعم قررت أن أخذه إلى سيكون كأخي.. بل أخي الصغير.
نظر إليه باستغراب:
-
ولكن..
-
لقد قررت ذلك وأقولها بصراحة لا لأنقذه من كفر أو إلحاد ولا لأجعله مسلما هذا الأمر سيقرره بنفسه عندما يكبر ولكن لا أريد أن يكون غريباً أتعرف أن المرء دونما جذور ذلك صعب أن تتميزه بسهولة ولكن أعرف ذلك،
نعم سيكون أخي... آه لو استطاع كل المولدين أن يجدوا لأنفسهم منفذا.. لو استطاعوا فقط أن يقرروا أن يجدوا نهاية المتاهة التي يتخبطون فيها.
كانت الدهشة تملأ وجه الحاج فهو لأول مرة يستمع إلى هذا الحديث الجدي من سكرتيره كان يمزج في الماضي أما الآن فالأمر جد.. ترى ماذا يتصور وسأله بحيرة:
-
أتعني أنكم المولدين بلا وطن.
-
قد يكون ذلك ما أعني وقد يكون الأمر مختلفاً .. نحن شعب جديد لنا مميزات ولنا وجود خاص، نحن لا نعرفكم..أنتم تحلمون بخرافة ونحن نعيش واقعنا بألم.
أنت تتحدث أربع وعشرين ساعة عن تحرير بلادك.. ولكن لن تحررها مطلقاً.. لقد هربت أتعرف من هنا لن نستطيع إلا أن تصرخ بملء فمك أيها الظالم سننتقم.. ولكنك تفتح فمك ولن يسمع أحد صوتك سوانا ونحن – آه – نحن يا سيدي لا نعرفك نستغرب عندما نرى ألمك ونبتسم أحياناً وبسخرية عندما تراك تحاول الصراخ.. ولكنك لم تقنعنا بالواقع.. أن تحرير بلادك يحتاج أولا وقبل كل شيء أن تحرر نفسك.. أن لا تخاف وأن تحارب لا من وراء البحار.. ولكن من هناك أمام العدو وجها لوجه.
وقاطعه الحاج محتجاً:
-
هل جننت اليوم.. ولكن نحن العمل من أجل أن يأكل الناس في بلادنا.. لم نهاجر إلا لنحاول أن ننقذ بلادنا.
ثم أضاف وفي صوته نوع من السخرية:
-
أنا أعرف أنكم أنتم " المولدين " لن تهمكم مشاكلنا .. وأنتم لن تفهموا سواء حسب علينا أننا نريد أن نحرر بلادنا أولاً، ولكنكم أتيتم لتكونوا عبئاً علينا..
-
كلا يا سيدي أنتم لم تأتوا لتحرير بلادكم، لقد أتيتم هنا هروباً من شبح الأمام.. لقد خفتم ولو كنتم حقا تريدون ذلك فلماذا أذن تزوجتم وانجبتمونا لتقولوا في النهاية هذا الكلام؟
أقولها لك بصراحة أنتم لن تحرروا بلادكم، وأن حررها أحد فهم أولئك الذين بقوا هناك! وربما نحن!
-
أنتم .. أنتم المولدين.
-
نعم نحن .. أننا نبحث عن وطن، عن شعب عن أمل. لا تعرف كيف يكون الإنسان عندما يشعر بأنه غريب لكننا سنحاول، قد ننجح ولكنا لن نقف متعذرين بأن الآخرين يعوقون طريقنا.
ضحك الحاج قائلا:
-
اتعرف هناك كتاب يقول " سيهدم الكعبة قوم يخرجون من الحبشة لا تربطهم بالحبشة سوى روابط الولادة".
كل ما عملتموه هو أنكم خرجتم عن دينكم وعاقرتم الخمرة، وتجرون وراء النساء.. ستهدمون الكعبة.
كان السكرتير يبتسم!!
-
نعم سنهدم " الكعبة " ولكن أي (كعبة) سنهدم (كعبة) الظلم والفساد و(كعبة) الرجعية والإقطاع سنهدم الخرافة التي هربتم منها وسنعيد إليكم يا سادة الطمأنينة، لا تخف فإن الله يحمي " كعبته الحقيقية " لكنه لا يحمي (كعبة) تستعب الناس الذين ولدوا أحرارا أما أننا كفرنا وعاقرنا الخمر وعشقنا النساء فأنت تعرف تماما – كما أعرف – أن كلا منا لديه أصدقاؤه ومكانه الخاص، طرقنا مختلفة لكن المكان واحد أليس كذلك؟
خفض الحاج بنظره إلى الأرض كان يشك من قبل أن سكرتيره يعرف عنه هذه الأشياء أما الآن فقد أدرك وهو لا يستطيع أن يذكر إلا أن الذي هزه أكثر كان صراحة السكرتير معه.
-
أذن يا سيدي فقد قررت أن أخذ الطفل إلي وهكذا ترى أنك خرجت من ورطتك.
سأله الحاج:
-
وماذا تريد مقابل ذلك:
ابتسم السكرتير قائلاً.
-
أن تعيد النظر إلى الواقع.
الفصل السادس والأخير

كان الشتاء يهبط على أديس ورياح باردة تهب على " سدست كيلو " في المساء فتنخفض مع هبوط المساء الأشباح السوداء التي تحتمي في منازلها المصنوعة من اللبن أو القش ولا يبقى في الشوارع سوى السكارى الذين وقفوا وفي أعماقهم كميات من نيران "الطجا".
كان عبده سعيد يرتجف في دكانه والساعة تقترب من التاسعة. قبل لحظات – ودع آخر عملائه ولكن ربما يأتي شخص ما يحتاج إلى أي شيء.
وفكر هل سيذهب هذا المساء إلى الفيلا .. وسرت في عروقه حرارة .. أن الجو هناك دافئ .. وهناك حضن أدفأ.. ولمح من بعيد شبح سكران يعانق شجرة ومرت من فمه تعويذة صغيرة.
وقرر فجأة أن يغلق الدكان..
كان يرتجف وهو يتوضأ لصلاة العشاء وبعد الصلاة تمدد على سريره وراح يحلم بعودته.. لقد كتب قبل أيام رسالة إلى القرية أنه سيعود ولكنه لم يحدد الميعاد.. دعهم ينتظرون .. وابتسم .. ستتحدث القرية منذ الآن عنه .. وسينتظر الجميع مقدمه ورأى القرية أمامه كما تركها قبل خمسة عشر عاما، وابتسم أنه يعرف أن الجميع سيحملقون في الطريق كما لاح شبح قادم.. وسيقولون دون شك.
-
ها هو ذا عبده قادم.
نعم كلهم اليوم يتحدثون عنه، وعنه وحده وسيرسمون حوله مختلف الأساطير أنه شخصية لها قيمة.. لها قيمة..
وارتجف من جديد.. كان الموقد الغازي قد أعاد إلى رمقه بعض الحرارة.. وبدأ يلتهم الخبز.. ولكن البرد في المساء كان شديدا.. آه لو ذهب إلى الفيلا .. لكنه خائف وربما كان زوجها هناك؟
أنه لم يرها منذ أيام، قالت له آخر مرة أنها متعبة وأنها سترسل له خادمتها لو تطلب الأمر مجيئه، ولكن الخادمة لم تأت.
لو أقبلت مرة أخرى، أي امرأة، وفكر لساعته " بطائتو " تلك التي لم يعد يذكرها إلا وشعر بالحرارة في خده، ولكنه لم ينسها.
فالبرغم من أنها جلبت له الكثير من المشاكل، إلا أنه أصبح يشكرها الآن لأنها كانت السبب في أن سكرتير الحاج عبد اللطيف قد تبنى ابنه وتخلص إلى الأبد من المخاوف التي كان يتصور أنه لن يتخلص منها مطلقاً، وأكثر من ذلك شعر بقوة تربطه إلى هذه المرأة التي لم يكن يفكر فيها مطلقا منذ ذلك اليوم الذي صنع منها امرأة كانت بالنسبة له مغامرة، إحدى النساء الكثيرات لكنها الآن أصبحت تختلف عن الجميع، وأدرك أنه فقد شيئا ما – لكن ذلك سرعان ما سينتهي بمجرد عودته إلى القرية ولكن القرية، أنه لا يعرف عنها شيئا، أنه يتصور كل شيء كما كان قبل هجرته، أن أحاديث الحاج عبد اللطيف وصالح سيف جعلته يشك في أشياء كثيرة لأول مرة يفكر بالوضع هناك، فقد قال له الحاج بعد أن ينس من تبنيه لابنه " أنك تستعجل " مغادرة الحبشة ولكن تأكد أنك سوف تدفع الضرائب التي تهربت منها هنا للعامل والحاكم والعسكري في القرية هذا إذا لم تفقد كل شيء.. كيف يمكن أن يتصور هذا، يفقد كل شيء، كيف؟ هذا لا يصدق، لماذا إذاً هاجر.
يقولون – كما يدعى الحاج – أن الكثير من المهاجرين فضلوا العودة على البقاء هناك.
وأن البعض فقد كل شيء في محاكمات وخصامات.. لكنه لن يحاكم ولن يخاصم أحداً. أنه إنسان يريد أن يعيش بهدوء يعبد الله ويخدم أرضه. أنه لم يتشرد إلا لهذا، من أجل أن يعود يوماً إلى قريته ويغازل أرض والده بفأس ويعزف عليها عرقه. ليرى بعد ذلك أغصاناً. خضراء تنمو وتنمو ليأت آخر العام بعد الكيلات التي حصل عليها، أحقيقة أنه لن يجد ذلك؟
كلا أنهم يحسدونه فقط وإلا لما اهتموا كل ذلك بالاهتمام وبالطفل وتبنيه.. أنهم لا يريدونه أن يسافر، فهو إنسان لا يتدخل في السياسة.. ولم يكن يوما ضد الإمام.. فهو يرسل لأهله كل عام نقود الضرائب للإمام.. حقيقة أن أهله في بعض رسائلهم يشكون إليه كثرة الضرائب ولكن ذلك لا يعني أن هذا شيئاً سيئاً – ما دام يدفع، وابتسم.. مهما كان الأمر سيعود.. سيرى كل شيء بنفسه.. وعندها سيسخر من أولئك الذين حسدوه.. سيعود وسيرى ابنه وزوجته.. ترى هل كبرت زوجته إلى درجة لا يعرفها.. وماذا في ذلك، فهو غني وسيترك امرأته تستريح ويمكن لو رأى فتاة تعجبه لتزوج بها وجعلها تخدمه وتخدم زوجته، التي تعذبت من أجله، ها، ها يالها من فكرة، أنه لا يريد أن يعذب زوجته، فتاة صغيرة، الحمدلله ديننا طيب لقد سمح لنا مثنى وثلاث ورباع وهو إنسان غني، ماديا. و، ها ها، يا لها من حياة رائعة سيراها، سيخرج يوميا إلى أرضه، سيرعى الغنم والبقر.. سيكون لديه السمن واللبن – لن يعرف رائحة هذا الدكان الذي بدأ يجفل منه لعنة الله على البرد، ما العمل، أنه لا يريد أن يستهلك الموقد جازاً أكثر.
قام وحمل من الخارج نصف (تنك) مليء بالتراب والرماد.. أحضر فحماً وأقفل الباب وترك على الفحم قليلاً من الجاز. حتى تنتشر النيران بسرعة وتدفئ المكان، وتمدد عبده على سريره لكنه لم ين.
كان اللهب الأحمر المنبعث من المدفأة الجديدة يثيره. فيتذكر عندما كان طفلا كيف عاد أحدهم من المهجر وأقام وليمة ضخمة تحدثت عنها القرية أياما وأياما. ووضعت القدور على نيران كانت تلتهم السماء بلهيبها.
سيعود وسيقيم أضخم وليمة غرفتها القرية سيجعلهم يتحدثون عنه لا أياما ولكن شهورا متواصلة. لقد تعب كثيرا – وقد آن الأوان لكي يستريح إلى الأبد.. وطافت بشفتيه ابتسامة فشعر بالدفء وكان النوم يداعب عيونه.
وبدأ الفحم يحمر، ويرسل دخانا وانطفأ اللهب الذي امتص كل الجاز المسكوب، وكان الدخان ينبع بصمت .. وعبده سعيد يحلم:
كان عائداً إلى القرية وامتلأت دروب الجبل بالناس، والأطفال يتسابقون إليه وعلى شفاههم ابتسامات. وهو قد فتح كيسا حمله بيد وراح يوزع عليهم أنواعاً من الحلوى، ويصيح الأطفال فرحين.
-
عبده سعيد روح. عبده سعيد روح.
ويهمس في أذن أحدهم بشيء، ويمد له بكمية من الحلوى، وينطلق إلى القرية، ومن خلفه عشرات الأطفال أنصافهم عراة، بأقدامهم السوداء الحافية وفي القرية يرتفع صوت أحدهم،
-
أحسن دار، دار من؟
ثم يصرخون – أوراه.. أوراه.
وينظر أكثر.. وأبعد إلى قلب القرية والرجال يهرعون لاستقباله والنساء يقفن على السطوح أو في أركان منازلهم ينظرون إليه بحياء، يرى في عيونهم أشياء كثيرة. والرجال يحيون بتبجيل، وفي أصواتهم تملق.. والعجائز يتقدمن إليه.. قائلات:
-
ما شاء الله.. ما شاء الله.
-
سبحانك اللهم رب العرش العظيم.
وتضع بعض النسوة الأشواك في الطريق.
كل ذلك وعبده سعيد يبتسم ويرى الجميع وهو في ملابسه الحريرية وفي جاكته الصوفية التي ذهب من أجلها بالأمس إلى – الباسة – ليخيطها عند أحسن خياط وعلى رأسه شال وبيده عصا وعلى ظهره أحدث بندقية وعلى شفتيه ابتسامة.
كان يحلم ويبتسم والدخان يملأ المكان، أكثر من أن تملأ النيران الفحم الدافئ في المكان.
-
من أغنى من في القرية؟
-
ويصرخ الأطفال.
-
اوراه.. اوراه..
وتفرقع في البعيد صوت – الطماش – وعند باب منزله يذبح كبشان، ويرى بعينيه امرأته – تختفي في إحدى الطرق أنه الحياء لكنه سيراها في المساء ويدخل الرجال إلى – المبرز – وتتوافد النساء إلى امرأته، وينشغل البعض في حل أربطة الحمير التي تحمل مختلف الأمتعة جنبت من – عدن – أكثر من خمسة حمير.
نعم أنه رجل غني
ويبدأ البعض في سلخ الكباش.
-
والله أنكم باتتعشوا معنا..
ويرسل أحدهم إلى أي مكان لشراء قات – كلا.. كلا، سوف يحضر القات معه ويسعل عبده لكن الحلم أجمل، ويلعلع صوت الأطفال. مختلطا بصوت – الطماش
ويتساءل رجال القرية المجاورة.
-
عرس من؟
وتأتي الأخبار بسرعة:
-
لقد عاد عبده سعيد من البحر.
وكانت الابتسامة تتسع.. ويتقلب الرجل على سريره الخشبي.. وصوت سعال يرسله فمه – كان الليل يقترب من الواحدة – وحرارة تسري في دكان عبده سعيد، والدخان يتصاعد من الفحم وعبده في أحلامه، وكان يتقلب وفي رأسه أصوات الأطفال.
-
أحسن دار في القرية دار من؟
-
دار عبده سعيد.
-
أوراه..أوراه.
-
هذه الأرض حق من؟
-
حق عبده، أوراه.
-
أحسن بندق في القرية.. حق عبده .. أوراه.
***
في الصباح كان الدكان مغلقا وانتظر العملاء أن يفتح ولكن دونما فائدة. وبدأ القلق يسيطر على البعض بينما ابتسم آخرون، وكانت همسات، ومن ثم بدأ الكلام يشمل الجميع.
-
ما الذي حدث؟
-
لعله مريض..
لا تقل ذلك، لماذا لا يكون عند أصدقائه في المركاته.
-
ولكن ذلك لم يحدث مطلقا.
ويهز البعض رؤوسهم.. وبدأ التجمع على الدكان.
-
عبده .. عبده.
-
أن الدكان مقفول من الداخل.. كأن شيئاً حدث للرجل.
وكانت عيون النساء تحملق بخوف أما اللواتي كانت لهن ذكريات مع عبده سعيد فقد أدركن أن خطرا ما يحدق بالرجل الذي منحن سعادة عابرة.
-
يجب أن يحضر أحد اليمنيين ليرى الأمر.
-
أو فلنتصل بالبوليس لعل في الأمر سرقة أو..
-
وأضاف أحدهم بهدوء.
-
قتل..
وتعالت في الجو صيحات النساء مستنكرة:
-
لا سمح الله.. لا سمح الله.
وفي الداخل كان ينبعث أنين خافت.
ألصقت إحدى النساء أذنها مشيرة إلى الجمع قائلة:
اسكتوا قليلاً لعلني أسمع صوتا ما.
وبعد ثوان قالت:
-
اسمع أنينا.. أن الرجل مريض .. يجب أن نعلن الخبر لأحد اليمنيين.
-
ربما يكون الأمر خطيرا.
وأسرع أحدهم إلى أقرب دكان يملكه يمني في المنطقة معلنا له الخبر.
لم ينقل عبده سعيد إلى المستشفى إلا في المساء فقد ذهب ذلك الرجل إلى المركاته وأعلن الخبر بدوره لصالح سيف الذي أسرع بعد أن فرغ من أعماله إلى (سدست كيلو) ولكن عبده سعيد كان قد فقد القدرة على الكلام.
كان شاحباً وعيناه جاحظتين ببشاعة وقد الصق شفتيه بعضهما ببعض بقوة كأنه لا يريد الاعتراف أما تعذيب وحشي.
وعندما رآه الدكتور أسرع بتمزيق ثوبه ومن بين شفتيه بصق بشتيمتين وقال:
-
قوم همج كيف يستطيعون الحياة بهذه القذارة.
ولكن أحدهم لم يعرف ما قاله سوى الممرض الذي ابتسم وأجاب:
-
ولكنهم يعيشون.
وأجابه الدكتور:
-
ليموتوا كالحيوانات.
-
وانتشر النبأ في كل " سدست كيلو " لقد توفي العملاق الذي وقف على قدميه في أرضه المربعة أكثر من عشر سنوات. فقد أنهار في النهاية ودمعت عيون كثيرة. وفي المساء كانت الشموع توقد في غرفة الرذيلة طويلا لكنها تضم في جدرانها قلوب بشرية أرق من الفضيلة نفسها.
ولم تنم ليلتها امرآتان.
كانت " طائتو " أمام صدر (ماري جرجس) الذي يحمل رحمة ليغمده في قلوب الحيوان البشع وكانت شمعتان.
لو مر أحدهم في ذلك المساء لرأى الحزن الذي خيم فجأة ولسمع أصوات نساء كانت بالأمس تصرخ الما في معارك لا نهائية ليسمع هذه الأصوات تنطلق بدعوات لا نهاية لها لقد ارتفعت في تلك الأمسية في " سدست كيلو " إلى السماء أصوات مئات البشر حملوا الحب لهذا الرجل لا لشيء إلا أنه مثلهم يعاني عذاباً ولكنه بصمت. ولأنه كان غريباً وغريباً طيبا يحمل ابتسامة.
أحقا أن المرض يمكن أن يصرعه في ليلة. كانت " طائتو " تعتقد أن غضبها وغضب ذلك الرجل الطاهر " السيد أمين " هو الذي صرع رجلها ولكنه لم تكن تريد ذلك.. أنها تحسب هذا الإنسان ولا تعرف لماذا تحبه .. طوال الليل كان الدكتور جالسا على جانب سرير عبده وقال للمريض:
-
لقد صمد هذا الرجل ببسالة أمام كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.
ولو صمد إلى الصباح لاستطعت إنقاذه يا له من إنسان.
كان الممرض يعرف عبده وراح يقص للدكتور كل ما يعرفه عنه وكان الدكتور إيطالياً يعبد الحبشيات وعندما سمع ما قصه عليه الممرض قال:
-
بغرابة لا أتصور مطلقاً أن يعيش هذا الرجل في ذلك الحجر كيف يمكن ذلك يا إلهي إنها حياة كالجحيم.
ذلك يا إلهي إنها حياة كالجحيم.
-
ولكن ما الذي يستطيعون أن يصنعوه سوى هذا.. لقد تركوا أرضهم، بلادهم، وأهلهم وراء لقمة العيش، أنهم يموتون جرياً وراء اللقمة قبل كل شيء .. هذا ما يفكرون فيه.
-
اللقمة أنني أوافقك ولكن من أجلها يجب أن نرمي كل أسلحتنا في الهواء تقول تركوا أرضهم لماذا لأنهم لم يستطيعوا أن يقفوا ببسالة ضد أوضاعهم القذرة .. شعب يهاجر من أرضه – شعب خائن لتلك الأرض
-
الظلم يجعل الخيانة شيئاً بسيطاً.
-
ولكنه لا يبرر الفرار.
ولكن عبده سعيد للأسف لم يكن يستمع إلى هذا الحديث ولو استمع لفتح عينيه تعجبا ولقال عما يتحدث هؤلاء المجانين؟
أنه يعلمهم بعالمه السحري الذي أصبح ملكاً له وحده وإلى الأبد لم يستطيع الدكتور أن يصنع شيئاً.
لقد أنهار العملاق وعندما غطى الدكتور جسد الرجل المثلج قال:
لقد أنهار لأنه صمد أكثر من الواجب إنها حياة لا تستحق أن تعاش.
ولكن الدكتور لم يعلم أن عبده سعيد كانت له أحلاماً أخرى.. أحلامه وحده لم يشاركه أحد فيها سوى الموت ولم علم فربما عزوه وربما ألقى نظرة أخرى على حياة مئات من البشر مثل عبده سعيد.
كان المأتم بسيطا تماما مثلما كانت حياة عبده سعيد نفسها ولكن الألم كان يمزق صدرين صدر امرأة وحيدة في غرفتها أمام صورة احترقت تحتها شمعتان وصورة امرأة أخرى فوق سرير من حرير يتحرك في بطنها الطفل الذي مات أبوه بالأمس.
خرجت المركاته لتودع عبده سعيد إلى مقره إلى قصره الأخير الذي لم يحلم به مطلقاً قبره المتواضع الذي .. لن يصرخ الأطفال حوله قائلين:
"
أجمل قبر في الدنيا قبر عبده سعيد ".
كان الحاج عبد اللطيف واقفا بصمت أمام القبر الذي يوارى التراب.
ونظر إلى الشجرة الباسقة التي تربض بالقرب من القبر بجانب حافة النهر الذي تغطيه أشجار لامتناهية الخضرة والجمال.
لقد وجد قبرا أحلم أن يكون لي مثله.
نظر إليه السكرتير وابتسم..
أهي القبور نهاية المطاف لكل هذا النضال وهذه الحركة؟
-
ماذا تعني؟
قالها الحاج وبعينيه غضب.
-
لا شيء أجاب السكرتير كل ما أعنيه أن القبور هي المكان الصالح لدفن حركات معينة.. أنت تعرف أنه مات ولم يترك شيئا طيبا في حياته سوى الآلام.. امرأة مهجورة منذ أعوام بعيدة وابن لم يعرفه.. وأرض لم يقدم لها أي قطرة من دمه.. لقد مات غريباً كما يموت مئات اليمنيين في كل أنحاء الأرض يعيشون ويموتون غرباء دون أن يعرفوا أرضا صلبة يقفون عليها.. أما هذا القبر فهو ليس قبره أنها ليست أرضه وليست أرضا.. أنها قبور أناس آخرين.. قبور الأحباش نحتلها نحن إلا يكفي أن نلتهم اللقمة.
من أفواههم، لنلتهم حتى قبورهم يا إلهي، كم نحن غرباء، كم نحن غرباء!!
ولكن أحدا لم يستمع إليه كان الحاج قد ذهب إلى قرب القبر يقرأ الفاتحة وفي أنحاء متفرقة من المقبرة وقف أناس آخرون يتحدثون عن أشياء كثيرة كلها لا تمت بصلة لهذا الإنسان الذي تنهال عليه حبات التراب.
حمل السكرتير طفل عبده سعيد إلى بعيد وأشار إلى المقابر قائلا:
-
انظر يا صغيري هنا في كل هذه المقبرة نيام إلى الأبد أناس غرباء لم تلدهم هذه الأرض ولم تنشئهم وتربيهم ولكنها قتلتهم لأنهم قوم غرباء.
لقد خانوا تربتهم حتى أنها لم يدفنوا فيها كم هو سعيد ذلك الذي يدفن في تربته.. في أرضه.
كان الصغير ينظر إلى السكرتير ولا يفهم شيئاً، ولكن الدموع التي تساقطت فجأة أخبرته أن الرجل حزين وراح هو أيضاً يسقط دمعات.
والتفت السكرتير إلى الطفل:
ونحن يا صغيري أين هي أرضنا نحن أكثر غربة منهم أكثر غربة نحن لا أرض لنا لا تربة لنا أننا ضائعون تقريباً.
كان آخر من في المقبرة.. وقبل أن يذهبا التفتا ليلقيا نظرة أخيرة إلى المكان الذي تضلله أشجار الكافور الباسقة برائحتها الزكية.
وفي زاويتي المقبرة خرجت امرأة وذهبت إلى القبر الذي أصبح شبيها بالقبور الأخرى كانت في ملابس سوداء وكانت عينها دامعة وفي يديها زهورا وماء.
انظر .. أنها " طائتو ".
وجرى الطفل إلى ذراع المرأة.
وقف السكرتير ينظر إليهما كانا يبكيان معا كان ينظر إليهما وفي أعماقه أشياء تنفجر.
ترى هل سنجد في النهاية طريقنا الحقيقية هذه المرأة التي تضع الزهور على قبر هذا الإنسان بملابسها السوداء بوجهها الجميل حتى عندما يكون حزينا ترى ما الذي تحمله لهذا الغريب الذي مات دون أن يترك شيئا سوى قبره.
وعندما رأى المرأة والطفل يتحركان في طريقهما إليه ابتسم بحزن لقد أدرك شيئاً لم يعرفه من قبل.
وغادر المقبرة تماماً عند المغيب أشباح ثلاثة..
"
تمت "

هناك تعليق واحد: