الثلاثاء، 19 يناير 2016

صنعاء... مدينة مفتوحة ﻟ محمد عبد الولي ( رواية ومقالات ورؤى مجمعة )



من الروايات التي أحدثت جدلا كبيرا في الساحة اليمنية
حيث تعرضت لحملات انتقاد عنيفة وتعرض كاتبها للتكفير بعد أكثر من ربع قرن على وفاته..
وحين أعادت صحيفة الجمهورية الثقافية نشرها عام 2000م تعرض رئيس تحريرها الأستاذ سمير اليوسفي للحبس والمحاكمة ..
لذلك وقبل إعادة نشرها هنا في واحة الأدب اليمني قررت تجميع بعض ما أثير حول الرواية وكل ما وقع تحت يدي من مقالات كتبت حول الرواية ومؤلفها ..
والمجال مفتوح للأخوة الأعضاء للحوار .. مع العلم بأن هناك الكثير من الفتاوى والدعاوى التي أطلقت مطالبة بحرق الرواية وتحريم إعادة نشرها .
رؤى حول رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) .. مقالات مجمعة
أحداث الرواية
صنعاء مدينة مفتوحة عمل واقعي ، مكتمل النضج ، وقطعة أدبية زاخرة بالمشاعر ، جسدت بعمق ونفاد طابع الصراع الاجتماعي والسياسي في المجتمع اليمني في الحقبة الأولى من حقب النضال السياسي المنظم ضد الامامة ، كما جسدت بامتلاء شخصياتها وتنوع مصائرها ، توق الشعب اليمني عامة إلى كسر سجن الطغاة وبناء عالم أفضل ....
وقد تفنن عبد الولي في تصوير غشم السلطة الامامية وعدائها للمجتمع وعبر عن سخطه لشخص الحاكم من خلال شخصية البحار الذي يدخل قلاع الامامة الظالمة ـ بيت عامل زبيد – وقد كان البحار في السادسة عشرة انذاك ونجح في معاشرة بعض حريم البيت في انتقام اخلاقي.. قصورهم تفضح نفسها بانحلال نسائها ، لقد اخذ البحار في النهاية ما أراد ثم ولي هاربا عبر البحر منتصرا برجولته على تسلط الامامة ..
ونجد أن إحدى شخصيات رواية محمد أحمد عبد الولي "صنعاء مدينة مفتوحة" التي هاجرت في عمر الشباب إلى شرق أفريقيا تقدم تجربتها للأجيال التالية من أبناء وطنها، وتنصحهم من خلال الكلام الموجه إلى نعمان بطل الرواية بأن يواجهوا مصير بلدهم. وتقول الكلمات المعبرة عن تلك التجربة: "كنت مثلك. أحاول أهرب من واقعي. حملت السلاح وقاتلت الناس .. ناس لا أعرفهم .. ولا يعرفوني. وليس بيني وبينهم عداوة.. ولكني قتلتهم. قاتلت مع الإيطاليين. وقاتلت ضدهم. كنت أبيـع نفسي لمن يريد شـراء أداة لإطلاق الرصاص" (صنعاء مدينة مفتوحة، صفحة 38).
وتعبر الرواية عن التطلع إلى حياة المدينة عن طريق وصفها لحياة القرية القاسية واللهفة لترك تلك الحياة والعودة إلى عدن: "آه يا صديقي كم أنا مسرور .. وحزين أيضا .. مسرور لأنني سأغادر "مقبرة الموتى" هذه، وأرى مدينة الأحياء من جديد. وحزين لأنني سأغادر فتاة الجبل" (نفس الرواية، صفحة 12). ولا جدال في أن الحياة في القرى كانت شديدة القسوة. وهي تعاني من اعتماد المعيشة على الزراعة الموسمية بالأمطار في الوقت الذي قد يحدث فيه الجفاف في أي وقت. وحسبما جاء في صفحة 17 بنفس الرواية فإنه كلما تأخر هطول الأمطــار "ازداد خوف الناس عن ذي قبل وبدأ شبح المجاعة يعود إلى أذهانهم .. خاصة وأن مجاعة 1948 ما زالت ماثلة في أذهانهم .. ولم يزل الكبار يذكرون كيف كانوا يأكلون العاص وحده" (وهو خبز جاف من دقيق الدخن وقد يخلط أحيانــا بدقيق الذرة ).
كما أن هطول الأمطار يؤدى في بعض الأحيان إلى زيادة تفاقم المأساة عمقا حيث تفضي غزارتها أحيانا إلى تدمير وتخريب كل شيء: المباني والزراعة والمدرجات. وفضلا عن ذلك فإن السيول المتولدة عن الأمطار قد تجرف الحيوانات والإنسان مع التربة الطينية للأراضي وتقضي على حياة الجميع ..
أما وضع المرأة الريفية "ليست سوى خادمة .. للأرض .. للبيت .. والزوج. إنها مجــرد زهـرة تتفتح قليــلا ثم تموت .. حين ينهكها العمـل. وكذلك هي زوجتي .. كانت ناضرة .. كزهرة .. فأصبحت الآن عودا يابسا. وأصبحت .. رغم أنها لم تتجاوز الخامسة والعشرين .. عجوزا .. كأنها على أبواب قبرها"
(محمد أحمد عبد الولي، صنعاء مدينة مفتوحة، صفحة 18).
_________________________
مجلة نزوى ..مجلة أدبية ثقافية عمانية العدد التاسع والعشرون
رواية (صنعاء مدينة مفتوحة)  منازلات فكرية .. واحتساب
سمير عبدالرحمن        2009-07-14

رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) منازلات فكرية .. واحتساب

1- المقدمة:-
لقد وقعت في حرج لا أحسد عليه, عندما انقطعت بي السبل في الحصول على رواية القاص اليمني المبدع محمد عبد الولي ؛صنعاء مدينة مفتوحة«, ذلك أن هذه الرواية قد أشعلت حرائق كبيرة في فضاء الساحة الثقافية اليمنية لا لتميزها وإبداعها عند النزر اليسير من المعترضين, وإنما لوجود بعض الفلتات اللفظية على لسان بطل الرواية (نعمان), والذي أدى إلى تلاسنات لفظية ومنازلات فكرية وعراكات مريرة امتدت إلى إشهار سيوف الحسبة والتكفير والدخول إلى دهاليز المحاكم. واستخدمت الرواية في مناورات سياسية, ومناكفات وتقاطعات شديدة, وح مل النص وبعض الملافظ, أكثر مما تحتمل التأويلات للنصوص الأدبية والفكرية, وكأن كاتب الرواية الذي مات في حادث درامي عام 1973م, كان يهدف من وراء الرواية الفساد لا الصلاح, واختلط الحابل بالنابل عند ثلة من المثقفين, وعجزوا عن تلمس طريقهم السوي وسط زحام شديد وتراشقات لا معنى لها, أرهقت المتصارعين, وأبعدت فصيلا منهم عن جادة الصواب.

2- الغربة والتمرد:
لقد عاش القاص اليمني محمد عبد الولي في القسط الأكبر من حياته تعيسا , كان يجد متعته في الكتابة, فالكتابة على حد تعبير كاترين أن بوتر:- ليست قضاء وقت فراغ جميل, هي ليست شيئا يحدث بلا ألم, إنها مهنة مرهقة وجادة(1).
لقد أرهقته الحياة, وأرهقته الكتابة في حياته, ومن وراء كتاباته تطارده التهم والرذيلة وهو تحت الثرى, يقول أرنست همنغواي:-
إن الكتابة, هي الرذيلة الكبرى, واللذة الكبرى, لا فكاك منها سوى الموت (2) فالموت لم يرح الروائي اليمني محمد عبد الولي الراحة الأبدية, بسبب التعاجم في التأويل للنص الأدبي, ولقد قال أحد المفكرين:
لا يمكن أن تتذوق الفن, إن لم تمتلك ثقافة فنية.
فالمبدعون: ليسوا ملزمين بالإيضاح المسطح, أو البساطة, أو العفوية المسكينة, أو بوضع الملعقة في فم القارئ (3).
إن القراءة الحصيفة للرواية وسعة الإدراك, تجنبان القارئ الوقوع في التسطيحات وتساعده على تكوين ذائقة فنية وجمالية, وعلى الغوص في أعماق الواقع, بعيدا عن البهرجات اللفظية والفسيفسات الشكلية.

إن القاص محمد عبد الولي قاص وروائي على قدر كبير من الموهبة, وصاحب قدرة عالية في عكس الواقع بلغة شعرية شفافة. ولقد تأثر كثيرا باللغة والتكنيك القصصي للقاص الروسي تشيكوف, وبحنا مينا, ويوسف ادريس.
فلم يكن مترعا بالرومانتيكية, بل كان واقعيا ينتمي إلى المدرسة الواقعية, وهو ليس كمن:- (يمسك ورقة وقلما ويرسم إلها وبرتقالة).
فهو يمسك ورقة وقلما ليرسم واقعا حيا بتفاعلاته, وديناميكيته وبتقاطعاته وبألوانه الطيفية الحياتية, إنه كاتب متمرد على الواقع, واقع الفساد والرذيلة, والسكون والجمود, يمسك القلم لتصوير الواقع بفن وإبداع, ويشير بسبابته إلى موطن الضعف والج بن في المجتمع, يكره العادات الرتيبة والتقوقع, وتمرده ليس موضة, أو عبارة عن عنفوان شباب, وإنما هو التمرد الواقعي والسليم, ليخلق مجتمعا أكثر إنسانية واستقامة.
لقد أدرك عبد الولي ضرورة تغيير الواقع, والخروج عن الجمود والرتابة, فبطل الرواية نعمان يقول:-
- أنا.. شاب مندفع لا يحب مطلقا أن تعيش بلا عجل.. بلا حركة.. بلا خفة.. وشعرت بالسأم بعد أيام من وجودي فيها (القرية)...
- الناس يا صديقي هم ناس بلادي.. بدون تفكير بدون أمل في المستقبل.. بدون شيء.. يأكلون القات.. مرتاحون ولا حديث لهم إلا عن (فلان).. وعن (فلانة).. أحاديث تصيبني بالغثيان كلما استمع إليها. فأهرب من الناس.. ومن نفسي..(4)
فمحمد عبد الولي في رواياته وقصصه, لا يريد من الجمهور أن يتعاطفوا مع أبطاله, ولا يقصد إلى إثارة المشاعر والأحاسيس العاطفية الشكلية, يريد منهم أن يشاركوا في الحدث, أن يتحولوا إلى عمليين, يدفعهم إلى التغيير والثورة على الظلم والأوضاع البائسة.
لم يقع كغيره من الناشئين في شبكة التقليد والمحاكاة. وظل يكتب على سجيته, دون التفات إلى حصيلته الثقافية.. فلقد كانت مرارة التجربة التي عاشها والصبا هي المسيطر الأول على إنتاجه...(5).
شهدت القصة اليمنية في حياة محمد عبد الولي ازدهارا لم يسبق له مثيل. ويعود في ذلك إلى تنوع تجربته الثقافية وموهبته الفنية التي صقلها بدراسته فن القصة (6).
فشخصية القصة والرواية عند محمد عبد الولي, اتسعت رؤيتها وانتقلت من الحالة الفردية إلى ؛النموذج« أي اليمن وأيا ماكان إزاء ظروف لا تشبه المأساة الكونية التي يتعرض لها البطل القديم, بل هي ظروف إنسانية وفي متناول يدنا, وفي مقدورنا تغييرها, أو ينبغي ذلك, من هنا لم تعد القصة تثير العطف أو الإشفاق أو الإعجاب, بقدر ما تثير روح التغيير للظروف الخارجية وإنقاذ الضحايا, ولم يعد المجهود الفردي كافيا , فلن يغير من الأمر شيئا (7).
- لا تنسوا أنتم.. أن هذه الأرض. لن تنفصل عنكم مهما هربتم. إنها جزء منكم. تطاردكم. ولا تستطيعون منها فكاكا . أنتم يمنيون. في كل أرض.. وتحت كل سماء..
- أريد: عملا أشعر فيه بأنني إنسان كبير.. إنسان يتضامن مع الجميع. الحب.. الحب هو ما أريده.. إنني أؤمن أن بلادنا, لا يفرقها استعمار أو استبداد..
إننا لا نستطيع عمل شيء لأنفسنا.. ولا أرضنا.. ولا حتى لهؤلاء العساكر.. إذا لم نخلق من جديد.. نخلق كل شيء.. الناس.. الأرض.. الوادي.. حتى أنفسنا. أننا لا نستطيع أن نعيش مع الحمير في حظيرة واحدة. لا أن نعامل معاملة الحمير. يجب أن نجد لأنفسنا مفهوما .. وأن نعرف حقيقتنا(8).
لقد حبك الكاتب خيوط نصه بمهارة الصانع الملم بأسرار صناعة السرد, وترك للقارئ مناسبة ملاحقة بناء النص وتتبع عوامله, وهو دائم التساؤل عن سر الحكي الذي ضبط مساره, ويحدد وجهته, إذ لا يمكن تكوين فكرة عامة عن هذا النص إلا بعد الانتهاء منه.. إن كل ذلك يجعلنا أمام نص متكامل العناصر والبناء, فهو كتلة واحدة, متراصة العناصر والأجزاء, وأي إهمال لأي منها لا يمكن إلا أن يسهم في تشويش الرؤية, كما أن أي إغفال لأبسط علاقة فيه لا يتولد عنه إلا اختزال النص, عدم النفاذ إلى جوهره, أو الكشف عن باطنه, والوقوف عند أهم ملامحه وخصائصه (9).
3- الرواية والإحتساب:
الرواية لوحة فنية وأدبية لمجتمع ما قبل الثورة اليمنية, فالظلم هو الظلم في الشمال (الإمامة), والجنوب (الاستعمار). فالرواية تعبير عن الإرهاصات الأولى لقيام الثورة اليمنية (26 سبتمبر في الشمال, 14 أكتوبر في الجنوب).
فالميزة الرئيسية لأبطال الرواية الغ ربة, تتقاطع أنفاسهم وأرواحهم مع الواقع, وتدخل في تناقضات رهيبة للخلاص من الواقع الكئيب.
فشخوص الرواية (أبطالها), (نعمان - محمد مقبل - الصنعاني - البحار (علي الصغير..), قد احترقت أناملهم بالواقع, واكتووا بنيران الظلم والعذاب, ولم يبق أمامهم من مفر سوى مواجهة الواقع بموضوعية وحذر, وإحداث انقلاب حياتي في المجتمع, لأن الظلم واحد في اليمن وأن تعددت أطيافه, ولابد من لحظة خلاص منه.
إن بطل الرواية (نعمان), عاش في غ ربة ومكابدات نفسية وروحية وضياع افتقد فيها الهدف لحياته وفي أحايين كثيرة كسر الواقع أجنحة أحلامه, وظل أسيرا لحياة الغ ربة والانهزام حينا من الزمن حاول نسيان الواقع ومداواة جراح الغ ربة الروحية والنفسية, ولكن دون جدوى, فالضبابية والضياع صارت عنوانا لحياته السقيمة:-
- يا صديقي إني تائه لا أدري ما الذي أعمله.. (10).
وفي لحظة التأمل يأتيه صوت صديقه محمد مقبل, ليحدث هزات في عقله وضميره:-
- عد يا نعمان ولا تهرب. سواء كنت في عدن أو في القرية.. فأنت تمارس المأساة.(11)
وفي نهاية المطاف تستيقظ روح التمرد في نفوس أبطال الرواية, ويقتنعون من أن لا سبيل لإصلاح المجتمع إلا بمواجهة الذات, والابتعاد عن حياة الزيف ومواجهة الفساد والظلم وتغيير الواقع إلى الأفضل, وقبل قليل من تكشف الحقيقة ومعرفة الهدف, تموت زوجة نعمان (هند) وطفلها لع سر في الولادة:-
- كم كانت صموتة.. لا تتحدث كثيرا ولكنها تبتسم.. ولا تتألم ولا تشكو.. كانت في المنزل وكأنها ليست موجودة.. دون صوت.. دون ضجة.. حتى عندما نخلو.. كانت هادئة دائما .
هل أنت سعيدة.. فتهز رأسها.. كلا.
هل تشكين من شيء.. فتهز رأسها.. كلا.
هل تريدين شيئا .. فتهز رأسها.. كلا (...)
لقد كانت (الدينامو) الذي يسير كل شيء فيه.. إن المنزل يشكو الألم.. وكل ركن فيه يردد.. لمسات يدها.. الحانية.. لقد كانت أما .. حتى للأحجار.(12)
فبموت ؛هند« تتملك بطل الرواية (نعمان), كآبة وهوس وتشنجات لا حدود لها, فيقع فريسة للمرض والهذيان, ويكاد لا يصدق أنها ماتت, ولماذا ماتت?!! وكيف ماتت?!! لقد شعر بالذنب والمأساة, لأنه أحبها دون اكتراث وبعبثية. أما في لحظة الصاعقة, الموت أنبجست مشاعر الحب الحقيقية من كل مسامات جسمه, وتحول قلبه إلى كتلة من اللهب والتشوق لهند... وتقوده الكآبة والاضطرابات والتشنجات إلى حالة من الهيستيريا والانفعالات اللاشعورية, وتتساقط من لسانه بعصبية غير مألوفة كلمات ليست مستساغة, لقد فقد توازنه وغابت أحاسيسه الحية إلى حالة من الهذيان مخاطبا المولى عز وجل:-
لماذا أخذت يا رب (هند) ما الذي عملته?
لماذا لا يدعنا الله (الله) نتمتع بشبابنا? (13).
لقد وقع بطل الرواية (نعمان) في حالة غير طبيعية, وتساقطت من لسانه ألفاظ تعبر عن حالة الغيبوبة واللاوعي التي وقع فيها, وهذه فلتات تحدث وقت الشدة والغصب في غير مكان وغير زمان.. فالصوفيون مثلا في حالة الغيبوبة واللاوعي تصدر عنهم تخيلات وتوهمات وشطحات لا يؤخذون عليها لأنهم لا يقصدون التطاول على الذات الإلهية أو التعالي عليها, وإنما يدخلون في حالات من الغيبوبة والحلول والتوحد والزهد والمشاهدة, معها يصعب تكفيرهم ووصمهم بالكفر والزندقة. وقد وضعت الصوفية مبدأ التغير في الثبات باعتباره القوة السارية لتنقية القلب في ثلاثية المعرفة والمحبة والمشاهدة أو ثلاثية القلب والروح والسر, وطابقت بينها بالشكل الذي جعل من وحدتها (الثلاثية) أسلوب وحدة السر (أو الحقيقة). فالقلب هو المعرفة والروح هي المحبة, والسر هو المشاهدة. في تقلبه يتدرج إلى الروح, وفي ارتقائه يرتقي إلى السر. أو أن تقلب القلب بين أصابع الرحمن يؤدي به إلى معرفة الوجود ومحبة كل ما فيه على أنه تجل للحق. ويكشف بدوره عن مشاهدة السر أو المعنى في جزئياته اللامتناهية (14).
لقد وقف الإمام محمد الغزالي (1059-1111م), ضد تكفير الصوفية, وهذا هو عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) في المقدمة يقول عنهم:-
الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع, فأعلم أن الأنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها مالا يقصدونه. وصاحب الغيبة غير المخاطب والمجبور معذور.. (15).
إن الإسلاميين مدعوون إلى عدم المسارعة في إشهار سلاح التكفير والتهويل والتفسيق ناهيك عن التحريض على العنف, وليذكروا ما نقل عن الإمام مالك إمام دار الهجرة من كراهيته الرد على أهل البدع, حتى لا يعين ذلك على إشاعة بدعتهم. وكم من كويتب أو شويعر نكرة متروك جعل منه التشهير رمزا للعبقرية والإبداع تتسابق المطابع وأدوار الترجمة على نشره ويتخطفه القراء (16).
فرواية »صنعاء مدينة مفتوحة« صدرت قبل ما يربو على عشرين سنة ومن الصعب على القارئ أن يجد اليوم نسخة في المكتبة أو الأسواق, ود رست في الجامعات, وم ثلت في مسلسل إذاعي, وقراء الرواية نزر يسير من المثقفين, لم تلفت انتباههم الفلتات اللفظية, بل كانوا يركزون على مضمون العمل الروائي:-
إن الرواية تبدو نقدا اجتماعيا للواقع, من خلال تصوير مأساته, وتبدو محاولة لإعادة ترتيب الماضي, ومحاكمته, وتبدو تبريرا للحاضر معا . إنها تبدو كل الأشياء, وتبدو ضباب الأشياء من خلال الدموع والمآسي, وتبدو لاشيء غير غيبوبة واهية تحملنا إلى أول الطريق كي نموت مرتين. أو نزهر من خلال الموت ورداء حمراء هي الحياة. لذا كان الموت ليس دلالة اجتماعية وسياسية فحسب, ولكن قضية وجودية ونفسية أيضا , هذا ما يختاره المؤلف منذ لحظة الولادة (17).
وقبل سنوات جرى تكفير العدد العديد من المثقفين اليمنيين والعرب في اليمن, ولقد وقف المفكر الإسلامي أمين هويدي مندهشا للتحشيد والتثوير والمغالاة في التصنيف, ففي صنعاء:-
جرت محاكمة علنية في مساجد صنعاء وشوارعها للشاعر نزار قباني. كانت تهمته أنه (يسخط) الذات الإلهية, ويستخفف في أشعاره بسبحانه وتعالى.. لقد قلت لمن أعرف في (مقايل) صنعاء, أن المساس بالعقائد أو بالغيب مفسدة ما في ذلك شك, لكن انشغال كل الناس بهذه القضية مفسدة أكبر. إذ أزعجني حقا كثرة ما سمعت من تصنيفات تضع البعض في دائرة الكفار, والبعض الآخر في دائرة الفاسقين, بينما يضم آخرين إلى قائمة المرتدين.
وقلت إذا انشغلت الأمة بمثل هذه الأمور, فمن ذا الذي يبني ويعمر ويصحح, خصوصا في بلد كاليمن هو أحوج ما يكون إلى كل عقل ويد, وكل لحظة وساعة, ليختصر الزمن وينتشل الناس من التخلف الذي يعانون منه? (18).
إن فضاء الحياة الثقافية يحتاج إلى مزيد من الانفتاح الواعي والمثاقفة وإلى روح التسامح والإخاء, واحترام الرأي والرأي الآخر, ولقد قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي:- رأيي عندي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري عندي خطأ يحتمل الصواب.
فالحرية ضرورية في حياتنا ولا نستطيع أن نتنفس بدونها: فحرية التفكير والكلام والكتابة دعامة لكل حكم صالح. وحرمان المواطنين من هذه الحريات بحجة أنهم قد يسيئوا استعمالها, أمر لا يقل سخافة وحماقة من منعهم من استخدام الشموع تخوفا من الحرائق (19).
ويتراءى لي, إن نشر »الثقافية« لرواية القاص محمد عبد الولي »صنعاء مدينة مفتوحة«, كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس عند نزر من الناس, والذين يضيقون ذرعا بآراء الآخرين. فثمة أناس من هذا الفصيل قد ج بلوا على فرض اللون الواحد وعلى الغلبة في أوضاع غير عادية, ويريدون إعادة سابق مجدها, في أوضاع عصية الرجوع إلى زمن فارط. ونحن نعيش في كنف الحاضر, من الصعوبة بمكان إدعاء الديمقراطية والحرية الفكرية للذات دون الآخرين:-
إن عقلا متنورا ويمارس الاستبداد هي معادلة لا يقبلها المنطق والواقع. والإنسان الذي يقرر اعتقال عقل غيره يكون في الوقت ذاته قد قرر اعتقال عقله ومن يريد الديموقراطية, ويكون منسجما مع ذاته, عليه أن يريدها للآخرين. أما من يريد الديموقراطية لنفسه ومصلحته فقط, وحجبها عن الآخرين ومصالحهم, فهو كمن يتزوج من جثة لا إنسان. والفرق بين ممارسة الديموقراطية وممارسة الاستبداد هو الفرق بين ممارسة الحب وممارسة العنف(20).
إن أقوم سبيل لتسوية الإعوجاجات والهفوات إن وجدت, هو النقد الهادف ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي, وعدم تسفيه الآخرين, وإثارة النعرات وتحشيد الناس لصب الزيت على النار, وإشعال حرائق لسنا بحاجة إليها. إن ما نحتاجه هو أن نغرس في القلوب حب الآخرين واحترام أفكارهم واتجاهاتهم الفكرية والإبداعية حتى في حالة الاختلاف معهم.
إننا نحتاج إلى تفتيق العقول وتنوير النفوس, وأن نجعل هذه القلوب والنفوس عامرة بالحب والإيمان فلا يمكن أن تتطور الأنظمة والعلوم والفنون والبشر دون الحرية, فهي المدماك الذي يشكل قاعدة للتطور والازدهار والنماء.
ولا يجب استخدام القوة والعنف في كتم أنفاس الآخرين, لإن ذلك يعد تشويها لروح المدنية: فالناس متساوون: في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء (21).
إننا في زمن نحتاج فيه إلى مزيد من العلم والثقافة وسعة الصدر وانفتاح العقل, إننا لازلنا نتلمس طريقنا صوب الديموقراطية, وعليه لابد أن نتعلم فن الاختلاف, وفن الاتفاق, لابد أن نتعلم النقد الهادف ونتقبل نقد الآخرين وقناعاتهم.
فلقد سقطت كل الأصنام والهياكل التي ادعت امتلاك الحقيقة لوحدها, وألحقت أضرارا فادحة بالثقافة والحرية والانفتاح.
لقد مضى زمن محاكم التفتيش عندما كان المفكرون والمتنورون يصلبون, وتقطع رؤوسهم وأناملهم وألسنتهم وتفتش قلوبهم وضمائرهم.
إننا مع الثقافة المنفتحة والعصرية مع ثقافة النقد ضد ثقافة الكبت والإلغاء والاحتواء: إننا مع التنوير: وحرية تبادل الأفكار والآراء هي أثمن حق من حقوق الإنسان لذلك يحق لكل مواطن أن يتكلم ويكتب ويطبع بحرية على أن يكون مسؤولا عن إساءة هذا الحق...(22).
إن كل العقلاء والطيبين يسعون باتجاه توطيد مدماك الديموقراطية في المجتمع, وحتى يتوطد هذا المدماك سيحدث هرج ومرج, وقد يتخالط أحيانا الصلاح بالطلاح, إلا أنه لابد من دفع ثمن لنمو شجرة الديموقراطية والحرية: فينبغي ألا نكفر بالديموقراطية ذاتها, فالأم التي ترغب في مولود يخرج من رحمها محكوم عليها أن تتحمل غثيان الوحم, وضربات الجنين وتقلباته, وأيضا كل ما يلزم من الحيطة والحمية, ثم ما يتلو ذلك كله من عسر في الوضع, وأحيانا ولربما هذه حالنا, ما قد يتطلبه ذلك من عملية قيصرية. إذا فالديموقراطية في مجتمعاتنا العربية ليست قضية سهلة, ليست انتقالا من مرحلة إلى مرحلة, بل هي ميلاد جديد, وبالتأكيد عسير.(23)
وأخيرا »أما الزبد فيذهب جفاء, وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض«.(24)

الهوامش

1- عن حنا مينا. القصة والدلالة الفكرية. كتاب الرياض. مؤسسة اليمامة - الرياض, العدد (76), مارس 2000م, ص115.
2- المرجع السابق, ص115.
3- المرجع السابق, ص115.
4- محمد عبد الولي. صنعاء مدينة مفتوحة. الحكمة - صنعاء, السنة 7, العددان (59-60), إبريل - مايو 1977, ص71, 72-73.
5- عمر الجاوي. في مقدمة لرواية يموتون غرباء لمحمد عبد الولي. دار العودة - بيروت, ط1, 1/6/1978م, ص8.
6- المرجع السابق, ص7.
7- د. عبد الحميد إبراهيم. »القصة والشخصية اليمنية«. الكلمة - صنعاء. العدد (43), مايو - يونيو 1977م. ص42.
8- صنعاء مدينة مفتوحة, مرجع سابق, ص101,115,99.
9- سعيد يقطين. »التحولات الحكائية والسردية«. نزوى - عمان. العدد (71), يناير 1999م, ص58.
10- صنعاء مدينة مفتوحة, مرجع سابق, ص82.
11- المرجع السابق, ص101.
12- المرجع السابق, ص134-135.
13- المرجع السابق, ص134.
14- ميثم الجنابي. »السر أو اللغز والمعنى في الإبداع الصوفي«. نزوى - عمان, العدد (19), يوليو 1999م, ص33.
15- عبد الرحمن ابن خلدون. مقدمة ابن خلدون. دار الفكر د.ت. ص474.
16- الشيخ راشد الغنوشي يناقش أزمة رواية (وليمة لأعشاب البحر). النور - صنعاء, العدد (111), يونيو - يوليو 2000م, ص7.
17- محمد علي يحيى.( »صنعاء مدينة مفتوحة« محاولة الخروج من دائرة الموت). الحكمة - صنعاء. السنة 17, العدد (137), إبريل 1987, ص37.
18- فهمي هويدي. أزمة الوعي الديني. دار الحكمة اليمانية - صنعاء. ط1, 1988م,ص182,186.
19- هولباخ عن/ د. مهدي محفوظ. اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث. المؤسسة الجامعية للدراسات, بيروت, ط1, 1990م ص129-130.
20- عدنان حافظ جابر. »العقلانية والديموقراطية«. المستقبل العربي - بيروت, السنة 22, العدد (254), 4/2000م, ص133.
21- حقوق الإنسان في 4 مجلدات المجلد1. دار العلم للملايين, بيروت, ط1, نوفمبر 1988م, ص18.
22- حسين جميل. حقوق الإنسان في الوطن العربي. مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, فبراير 6891, ص02.
23- د. محمد عابد الجابري. وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر. مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, ط1, يوليو 1992, ص122.
24- القرآن الكريم, سورة الرعد,: آية 18

سمير عبدالرحمن الشميري كاتب واكاديمي من اليمن
"صنعاء مدينة مفتوحة" د. باسم الياسري
___________________________
الروائي اليمني محمد عبد الولي في "صنعاء مدينة مفتوحة"

سرد روائي حميم واقتراب من الواقع
كان محمد عبد الولي في الخامسة والعشرين عندما توفي عام 1973م بحادث مأساوي في اليمن بعد تنقل مستمر طيلة حياته القصيرة، ولد في أثيوبيا عام 1948 وسافر إلى القاهرة في 1955، ثم إلى موسكو ليدرس الأدب في معهد غوركي، وعندما عاد إلى اليمن شغل عدة مناصب إلى أن قتل في حادث طائرة، لتطوى بذلك حياة أديب مبدع ليترك خلفه تراثاً ثرياً قياساً إلى عمره القصير، لقد ترك مجموعة من القصص (ليته لم يعد)، (الأرض يا سلمى)، (يموتون غرباء) و(شيء اسمه الحنين) والرواية التي نعرض لها (صنعاء مدينة مفتوحة) وغيرها.

ولعل القاسم المشترك لكل هذه الأعمال دون استثناء معاناة الشعب اليمني حيث يرسم من خلالها صورة بالغة القتامة، إلا أنها شديدة الواقعية عن مجتمعه، ومحور قصصه هي الغربة عن الوطن والاغتراب داخله.

في (صنعاء مدينة مفتوحة) نتعرف على نعمان، محمد مقبل، الصنعاني، هند، فتاة الجبل، فاطمة، شخصيات رسمها بعناية ومهارة شديدتين وكأنها تتحرك أمامك، بل إنك تشعر أنك تعرفها وربما صادفتها من قبل، تشترك كل هذه الشخصيات معاً في بناء هذا النسيج الذي يخلق الرواية.

فنعمان مثلاً وهو الشخصية المحورية في العمل لا تستطيع الحكم عليها من الوهلة الأولى، فالانطباع الأول غير كاف، وبالتالي فإن الحكم على الشخصية لا يأتي من خلال هذا الانطباع وإنما من خلال سلوك الشخصية وكلامها وثقافتها وآراء الآخرين فيها فماذا نجد في نعمان؟

نعمان شاب في الخامسة والعشرين من العمر – كما يصفه الكاتب وهو قريب من عمره – لا ندري من خلال الرواية ماذا يعمل في عدن ولا في قريته إلا مزارعاً أحياناً مع ذويه، فهو ابن عائلة فلاحية، جرب الحياة في المدينة (عدن) وعاد إلى الريف ثم عاد إلى عدن، نجده يشعر باغتراب عن أهل قريته، وهو غير راض لا عن أخيه سيف الذي سلبه فاطمة ولا عن أهل بلده.

"ولأنه يذكرني بواقعي القذر الذي أعيش فيه ويعيش فيه كل أبناء وطني" (ص6) وهو لا يرى خلاصاً للواقع المعاش فيقول "الناس يا صديقي هم ناس بلادنا دون تفكير، دون أمل بالمستقبل دون كل شيء، يأكلون القات، مرتاحون لا حديث لهم إلا عن فلان الذي عاد إلى القرية وفي جيبه الريالات التي لا تنتهي وعن فلانة التي لاحظوا أنها تتزين وتلبس ملابس نظيفة رغم غياب زوجها عنها منذ سنوات أربع" (ص 8).

هذا الاغتراب الذي يعيشه نعمان يفسر تنافر الحالة النفسية للفرد مع العرف الاجتماعي الذي أصبح جزءاً خالصاً للمفهوم الجديد للإنسان الذي تحدد على يد "روسو" و"غوتة" كما يرى د. أحمد الهواري في كتابه "البطل المعاصر في الرواية العربية".

ونعمان هذا يبدو غامضاً في ماضيه سر، يعيش بمعزل عن المجتمع "أنا لا أحب مجالسهم ولا أحاديثهم.." (ص5)، ما الذي يدفعه إلى هذا السلوك وهو منفرد صامت لا أحد يقترب منه "أحب أن أكون وحيداً بلا أي إنسان" (ص9)، وعندما وجده الناس هكذا حاولوا استدراجه إلى حياتهم بأن جلبوا القات ليمضوا الوقت معه إلا أنه بدل أن يشاركهم تركهم وصعد إلى الجبل. نراه يتحدث بين وقت وآخر عن أن هؤلاء الناس بلا زعيم بلا تنظيم لكن أفقه الأيديولوجي لم يتحدد بالضبط.

عن موقفه من الدين حيث يسخر من بعض ما يقوم به نفر من مدعي الدين، وهو حين يعارض هذه الأمور لا بسبب عدم إيمانه بل لأنه متعلم ويرفض الشعوذة باسم الدين ويحطم كل قيمة لأدعياء الدين ففي الجفاف بان معدن الناس، حيث يقول "شيخ القرية ذلك الحاج الذي زار بيت الله الحرام أكثر من مرة أنكر جميع النقود التي أرسلت معه من المهاجرين بقريتنا" (ص14).

إن شخصية نعمان شخصية نامية تلتصق بالأحداث تؤثر وتتأثر بها، وإذا كان نعمان بطلاً للرواية، فذلك لأنه يحمل على كتفيه فكر الرواية، فالبطل لا يظهر إلا متى اهتزت القيم والبطل هنا ليس المنتصر، فالمهم ليس تحقيق ما يهدف إليه وإنما المهم شرف المحاولة.

وإذا كانت المسرحية في جوهرها حوار، فإن الرواية في جوهرها السرد الذي يشكل مع الوصف والحوار واللغة النسيج الروائي. وقد يختلط علينا الوصف مع الرواية، ولكن يمكن القول إن السرد حركة، أما الوصف فهو سكون، والسرد حيلة يلجا إليها الروائي لإيهام القارئ كي يجعله يقع تحت تأثير ما يريد قوله.

ففي رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) بدأ محمد عبد الولي روايته (تساءلت كثيراً قبل أن أكتب إليك) وتنتهي الرواية ولا ندري لمن بعث رسائله هذه، إذن هي حيلة لجأ إليها ليقص علينا روايته وليجعلنا نصغي إلى سرده.

إن الروائي الذي يحمل أفكاراً يحاول إيصالها إلى القارئ إلا أنه لا يقولها بشكل خطاب، أو تعاليم، بل يختار لها هندسة معينة محببة ولا بد له أن يوازن بين البناء الفكري والفني والشكلي، يحدثنا نعمان في بداية الرواية عن حياته في الريف يستخدم بعض أساليب السرد، فاستخدام أسلوب الرسائل التي تشبه اليوميات وهي تقنية سردية نشأت في وقت مبكر مع نشأة الرواية.

فاليوميات أو الرسائل تعبر عن طبقة متعلمة تمتلك وقت فراغ تمارس فيه هوايتها وهي الكتابة عن أحداث مرت، وهكذا بدأ محمد عبد الولي روايته بكتابة رسالة غير أننا نجدها ليست رسالة تقليدية، بل هي متحررة من قيود الرسائل التقليدية وتتحرر أكثر فأكثر لتتحول إلى رواية. كما استخدم أيضاً التذكر والذي يتم عادة من خلال المفجر ويقصد به الموقف الذي يفجر ذكرى تعيد الشخصية إلى أجواء تلك الحادثة، ففي مشهد جنازة بنت الجبل السمراء يتذكر لقاءاته المتعددة بها والأوقات الجميلة التي قضياها معاً، كذلك استخدم محمد عبد الولي الحلم وهو وسيلة يلجأ إليها الروائي هروباً من السلطة أو الأعراف الاجتماعية حيث يلتمس عذره في أنه في حلم وليس في واقع تختلط أحياناً مع أحلام اليقظة، ولعل الرؤيا التي مر بها نعمان في آخر العمل ورؤيته لهند وزينب وفتاة الجبل السمراء كانت نوعاً من هذا الحلم.

وإذا كان الحوار مهما في المسرحية، فهو لا يقل أهمية في الرواية حيث يقوم بدور المفسر والممهد لأحداث وقعت أو ستقع فضلاً عن أن القارئ يكتشف من خلاله ثقافته الشخصية وعمقها أو سطحيتها فبين نعمان وفتاة الجبل السمراء يدور الحوار التالي:

نعمان: لا بد إذن أن حياتك صعبة نوعاً ما؟

الفتاة: إن حياتي ليست صعبة فأنا أعمل في الأرض والبيت وأجد لقمة العيش دائماً، كذلك أجد ملابس من أخي أو من والدي، أما زوجي فأنا لم أعد أهتم به لأنه لا يهتم بي (ص 23) هذا الحوار يرسم لنا أبعاد الشخصية المحدثة، ظروف حياتها، معيشتها، سلوكها مع زوجها، وهذه هي وظيفة الحوار في الرواية.

أما الوصف فإن الروائي يعمد إليها ليشرك القارئ إشراكاً غير قسري بالعمل والوصف، كما قلنا غير السرد، ففي هذا المقطع على لسان نعمان صورة وصفية "وانطلقت بي السيارة تاركة خلفها محمد مقبل يرفع يده مودعاً ورأيت الوادي أمامي من جديد بأشجار النخيل وأراض زراعية مكسرة وجثث حيوانات على ضفتي الوادي" (ص 36).

أما المكان فإن لا بد أن يلقي بظلاله على الشخصية والحدث معاً، فقد تجول عبد الولي في ربوع اليمن وتحدث عن الريف والمدينة، الريف والعلاقات بين أهله والمدينة وحياتها وساحلها الذهبي وليالي الصيف الجميلة وغيرها، وانتقل إلى زبيد وعلمائها الذين تبخروا، وعن صفائها ومآسيها غير أنه لا يرى في بلده إلا "زريبة للحمير" (ص 37). إنه يتألم لحال وطنه فيصفه بهذا الوصف ويتمنى أن يرتقي مثل باقي البلدان التي زارها وعاش فيها، كما صور المقهى بأسلوب جميل ورسم صوراً رائعة لروادها وكذلك الميدان والسوق. لقد أغنى الرواية بأسلوبه الجميل بصور كانت قاتمة إلا أنها رسمت بفنية عالية.

أما الزمن عند عبد الولي فإنه باستخدامه أسلوب الرسائل جعل الأحداث تروى في الزمن الماضي، إلا أن ذلك لا يمنع من تداخل الأزمنة مع بعضها البعض، فالرسائل تذكر الصنعاني وتذكر البحار وهي قص من الزمن الماضي إلا أنه يتداخل مع الزمن الحاضر، فتذكر البحار حين يقول "كانت زبيد منارة للعلم منذ عرف اليمنيون العلم (ص 56)، ثم يقول "داخل الأسوار ينام الناس ويأكلون ويذهبون للصلاة ليؤدونها دون حماس، ثم يعودون ليناموا" (ص 57).

والمرأة عند محمد عبد الولي كانت على الدوام الملجأ والواحة التي يحط الرجال عندها وينشدون الراحة، هذه الراحة التي تثمر بعد الوصال، فينتشي الرجل ويكبر زهوه بنفسه، وهو ما يتساوى فيه الفقير والغني على حد قول أحد أبطال العمل، فنساء الرواية وإن كن مختلفات في التفاصيل غير أنهن كن الملاذ دائماً، فهند زوجة نعمان لم يعرها اهتمامه غير أنه كان يشعر بالاطمئنان معها، وحزن أشد الحزن لفقدها، فتاة الجبل السمراء امرأة محرومة من زوجها لأربع سنوات وجدت سعادتها مع نعمان ووجد نعمان سروره معها، زينب امرأة صغيرة تبذل المستحيل لإرضاء نزوات نعمان يصفها فيقول "جسد تتمدد فوقه كل طبقات بلادنا وها أنا ذا آخذ دوري" (ص 77)، فهل زينب هي الوطن أم هند التي يقول عنها "كانت تعمل في صمت وتنام في صمت وتبتسم في صمت كانت مثل أرضنا شابة وخطها الشيب سريعاً" (ص 74).

لقد كان في نعمان الكثير من محمد عبد الولي الذي أفاده تنقله بين العديد من الدول زائراً ومقيماً مما منحه هذا التنقل حرية أكبر في التعبير بعد أن استوعب من تلك المجتمعات ما يفيده في عمله الروائي، إلا أنه ظل مخلصاً لبيئته ومجتمعه وعبر عنهما اصدق تعبير وما زالت كتاباته إلى الآن تثير حفيظة الآخرين. إن أدب محمد عبد الولي يستفز في القارئ مكامن سباته مثل إلقاء حجر في بركة ماء ساكن لتفضح عما في داخله، مات عبد الولي وظل أدبه يذكرنا بقيمة الإبداع التي تخلد صانعيها.
صنعاء مدينة مفتوحة .. رواية لمحمد عبد الولي

(1)
تسللت كثيرا قبل أن أكتب لك.. فأنا عادة لا أحب مطلقا أن أكتب.. حتى لأقرب الناس إلي.. ولكن.. هناك شيء ما يجذبني إليك .. لعلها صداقتنا التي ولدت في هذه الظروف الحرجة.. صداقتنا التي في عمر الزهور .. والتي أتمنى دائماً أن لا تذبل.. بل أن تستمر يانعة مدى الحياة.

أن وداعك لي كان بمثابة انفصال قوي عن ذاتي.. فأنا لم أتعود أن أهب أصدقائي الكثير.. ولكن بطريقة ما أخذت معظم ما في داخلي .. بل أصبحت جزءا من نفسي.
كان الوقت عصرا والشمس تميل بقوة نحو المغيب ولكن الطبيعة أرادت أن تجعل وداعنا كبيرا لا يشمل كلينا فقط بل يشمل كل ما حولنا.. فبكت السماء بقوة وعنف.. وبكينا نحن أيضاً.. ولا أدري أيضاً لماذا بكيت لعلها أرادة السماء ومضيت بعيدا عني ورأيتك تنتزع خطواتك من فوق البرك والأوحال التي صنعتها الأمطار.. حقا وداعا لا أستطيع أن أعبر عنه.. وغبت عن ناظري وأنا لم أزل واقفاً عند بوابة " حضيرة السيارات " في " دار سعد " وأحسست عندها أن فراقنا سيطول.. ولن يكون لمدة ثلاثة شهور فقط.ولكن كذبت نفسي.. وقلت سأعود لك قريبا .. بل قريبا جدا.. لنثبت صداقتنا وندعمها أكثر من ذي قبل.
ومضت بنا السيارة الكبيرة والأمطار تهطل بشدة وعجلات السيارة تغوص المرة بعد الأخرى في الأوحال.. والبرك .. وأخيرا في رمال الصحراء . وكان سفري تعبا فقد تركت المدينة والحياة الصاخبة والأصدقاء تركت كل ما كان يدفعني ويشعرني بالحياة، ولا أطيل عليك فلقد وصلت القرية بعد يوم كامل من الإرهاق. آه كم أتمنى أن لا أتذكره، لأنه يذكرني بواقعي القذر الذي أعيش فيه. ويعيش فيه كل أبناء وطني. ولكن مالي وما لأبناء وطني.. أنني أنا ؟؟ وأنا فقط من أهتم به .. ومهما كان الطريق غير ممهد.. والصحراء تأكل سيارة تلو أخرى والأمطار غزيرة حتى أنها تغرق القرى وتدفع السيول التي تختطف الأطفال الصغار.. والكبار كما سمعت .. بل وكما رأيت بعيني في " وادي الصميتة "، ذلك الوادي الذي يشبه الجنة في هدوئه وجماله ذلك الوادي الذي يعيش ويعيش فيه سكانه " بصمت " حتى يخال إلى أن لا أحد يعيش فيه.
مهما كان فلقد وصلت القرية. كانت هادئة .. ميتة.. لا حياة فيها لأمثالي، وكان الفراغ يملأ حياتي كل يوم.. وكل ساعة. وأنا كما تعرف شاب مندفع لا يحب مطلقاً أن يعيش بلا عجل.. بلا حركة .. بلا خفة. وشعرت بالسأم بعد أيام قليلة من وجودي فيها. لك الله يا صديق كم أذنبت في حقي حين تركتني وحدي أسافر على القرية ناصحا أياي واصفا لي الهدوء الذي سيعود إلي حياتي والأوقات التي قد تعيد لي ثقتي بالحياة كلا يا صديقي فالحياة التي تملأ حياتي وتعيد لي ثقتي بنفيس هي حياتنا نحن معا في العمل الحقير الذي نعمله وفي الساعات التي تقضيها معا في حافة ذلك اليهودي.. أو في بيت عاهرة طيبة وجميلة أو في الشاطئ الممتد إلى ما لا نهاية حيث أصوات الأمواج تطغى على همسنا وعلى أصوات أقدامنا التي تقذف بعنف إلى البحر بزجاجات الخمرة الفارغة التي خلفها في الليلة السابقة عشاق الوحدة وجمال الشاطئ .. مع نساء .. أو مع أنفسهم.. أو في ساعتنا على سرائرنا الخشبية في مقهى " الحاج علي " " الخساف " وقت الظهر ونحن نلوك تحت أسنانا أعشاب القات الخضراء.. المصفرة نوعا .. أو مع مناقشاتنا التي تخلقها فينا حرارة القات. تلك هي الحياة الحقيقية التي أريدها. أما هنا .. فال شيء سوى النوم حتى منتصف النهار.. والكسل .. وأكل القات وحيدا . حيث أنني لا أحب الذهاب إلى منازل الآخرين حيث يجتمع عشائر القرية ويتحدثون حديثا مسئما.. لا أعرف منه شيئا. حتى والدي.. ذلك الإنسان البسيط الذي كنت أحبه من قبل أصبحت أتحاشى مقابلته كثيرا. خاصة وأنت تعلم موقفه من خلافي مع أخي " سيف ". أما أمي المسكينة فهي تعيش على هامش الحياة. لقد أصبحت يا صديقي عجوزا محطمة .. بل أنني أخاف أن تفقد بصرها. وهكذا ترى أن منزلنا أصبح يسوده الوجوم.. والحزن. أما زوجتي تلك الفتاة الجميلة التي همت بها حبا حين كنا نرعى الأغنام على جبال قريتنا.. والتي أثارت ضجة حتى تزوجتها.. قد أصبحت الآن عودا يابسا.. لا حياة فيه. أن أعمال المنزل المثيرة والمرهقة قد حولتها إلى مجرد آلة من أجل الآخرين. وكم حاولت أن أعمل من أجلها شيئا.. ولكن لا فائدة. أما أخي " سيف " فلقد هجر المنزل إلى مكان آخر مع زوجته.. بل وطالب بنصيبه من الأرض حتى يستقل استقلالا كاملا عن الأسرة. ولم أكن لأحب ذلك مهما كانت خلافاتنا إلا أنك تعرف أخي.. جيداً.
وهكذا تراني يا صديقي لا أجد الحياة التي جعلتني أحلم بها والتي من أجلها أسرعت إلى القرية. القرية يا صديقي أصحبت كابوسا علي.. وأصبح وجودي فيها شيئا لا فائدة منه.
أما الناس .. آه لكم ظلمتني .. أنا لم أكن أريد أن أعود إلى القرية. حتى لو مات كل من فيها. ماذا يهمني منهم؟ ولماذا أعيش بينهم. الناس يا صديقي هم ناس بلادنا.. بدون تفكير بدون أمل في المستقبل.. بدون شيء. يأكلون القات .. مرتاحون ولا حديث لهم إلا عن " فلان " الذي عاد إلى القرية وبجيبه " الريالات " التي لا تنتهي .. وعن " فلانة " التي لاحظوا أنها تتزين وتلبس ملابس نظيفة.. رغم غياب زوجها عنها منذ سنوات أربع. أحاديث تصيبني بالغثيان كلما استمعت إليها. فأهرب من الناس.. ومن نفسي .. إلى الجبل. وهنا أجد لحظات جميلة .. سعيدة . لكن أيضا لا فائدة منها. بالأمس أدركتني الأمطار وأنا أنظر من " الاكمة " إلى الوادي الأخضر تحتي ومدرجات الزراعة تكسوها الأعشاب الخضراء التي بدأت تتفتح لموسم جديد ورأيت عدة فتيات في الوادي يملأن جرارهن من الماء العذب. ولم أهرب من الأمطار. بل وجدت لذة لا حدود لها وأنا أرى الفتيات يتسابقن في الهروب والاختباء وابتسمت رغم أنني كنت مبللاً والمياه تغمرني وشعرت بطفولتي كلها تتجمع وتجعلني أقفز وأجرى وألعب بالمياه ورفعت رأسي نحو السماء وفتحت فمي استقبل به مياه الأمطار قبل أن تصل الأرض. وقبل أن أعود المنزل بعد أن هدأت الأمطار رأيت فتاة كانت قد تخلفت عن العودة إلى منزلها تجمع قليلا من الأحطاب من فوق الجبل فداهمها المطر فاختبأت في بطن كهف. وكان من سوء حظي أو حسنه لا أعرف أن رأت الفتاة كل ما فعلته وحين قابلتها ابتسمت ابتسامة جذابة .. أحسسن أن فيها نوعا من السخرية ولكني تجاهلت ابتسامتها ومضيت عائداً إلى المنزل.

(2)
مضى أسبوعان لوجودي في القرية وبدأ كل فرد فيهب يتحدث عني. منذ أيام سمعت أحدهم يقول أنني أعامل والدي معاملة سيئة وأنني أرفض العمل معه في الأرض وأنني أيضا أترك كل تلك الأعمال لزوجتي. نعم يا صديقي أنا لا أعمل لأن العمل هنا يرهقني بل يقتلني. وليس ذلك فقط.. بل أنني قد أصبحت متهما من الجميع هنا.. لماذا؟؟ أنك تعرف السبب جيدا. أنا لا أحب مجالسهم.. ولا أحاديثهم .. ولا أحضر معهم الصلاة في المسجد.. لأني لا أحب الصلاة حتى صلاة الجمعة .. وأني فوق ذلك كله.. أحب أن أكون وحيدا. بلا أي إنسان. أنني أكره أي منهم يحاول تعكير حياتي التي رسمتها
أنهم يقولون أن " نعمان " بخيل وأنا لا أتصوره بخيلا مطلقاً. أنني بخيل لأنني لم أدع أحدا منهم إلى المنزل حتى ولا لأكل القات. ولق حاولوا ذات يوم أن يعكروا الحياة التي رسمتها.. إذا أقبلوا جميعا إلى المنزل وفي يد كل منهم " عقارة القات " واستقبلهم والدي. وحين بحث عني كنت قد أخذت " قاتي " وذهبت إلى الجبل وحيدا.. وقضيت يوما جميلا.
وهناك تعرفت على الفتاة التي اخبرتك عنها من قبل ولقد رأيت أن لها جمالا مثيرا.. أنها تقضي دائما ظهر كل يوم في الجبل تجمع أعواد الحطب اليابسة.. وكانت كلما رأتني ابتسمت وفي ابتسامتها أجد عالما جديدا في هذا العالم الذي أعيش فيه.. ولكنني كما تعرف لن أجعل علاقتي معها أكثر من تمتعي بجمالها. لأن الحب يا صديقي لا أعرفه.. بل لا أحس بوجوده. خاصة هنا في هذه القرية بعد تلك القصة التي أثارت قريتنا منذ خمس سنوات حين أصررت على الزواج واخترت زوجتي بنفسي.. لأني كما قلت في ذلك الوقت كنت أحبها. وتحت إصراري وثروتي تمت الزيجة. وكان كل شاب في قريتنا يحسدني لأنني تزوجت حسب رغبتي. وقال البعض أن حياتي المستمرة في المدينة قد جعلتني أشد تمسكا برأيي عن أن أوافق على رأي أهل القرية.
أما الآن .. فأنا لا أعرف ما هي تصرفاتي أزاء زوجتي. لعل أهل القرية على حق في قولهم أنني لا اهتم بها. ولكم تساءلت: لماذا لا أحاول خلق ذلك الحب القديم..؟ ويكون جوابي سلبيا في معظم الأوقات. لا تصدق أن في داخلي شيئا إزاءها. أنني أريد إنقاذها من الجحيم الذي تعيش فيه ولكني لا استطيع فهي الإنسان الوحيد الذي يستطيع رعاية والدي ووالدتي.. بل أنني لا أغالي إذا قلت أنها أصبحت لهما أكثر فائدة مني ومن أخي " سيف " وهكذا ترى أن علاقتي بزوجتي أصبحت في حكم المقطوعة .. أننا لا نرى بعضنا إلا في ساعات المساء.. وأحياناً لا أراها طوال النهار.
أما والدي فقد أصبح المسكين لا يستطيع التحدث معي. أني أرثي لحال هذا الإنسان القوي.. الجبار الذي مارس حياة عنيفة في بلاد الآخرين حين كان في الخارج... أصبح اليوم إنسانا محطما لا يستطيع تقويم حياته هو وحده.
أنني يا صديقي لا استطيع أن أجد لتصرفاتي تبريرا معقولا.. أن الفارق بين جيل انتمي إليه وجيل سكان القرية هو السبب أن حياتنا مع لا تحتمل .. فلا بد لأحدنا أن يخلي السبيل.. ولن نكون نحن.

(3)
سأغادر القرية.. هذا هو شعاري. أن حياتي أصبحت لا جدوى منها هنا فلا بد من الرحيل .. ولا بد لي من ممارسة حياتي العادية.. أنني لا أتصور أن " نعمان " الشاب ذو الخمسة والعشرين قادر على البقاء لمدة ثلاثة شهور بلا رفيق سوى الوحدة. وفتاة الجبل النارية الجمال أصبحت جزءا من حياتي .. أخاف منها اليوم أكثر من خوفي من الآخرين. أنها يا صديقي زوجة لأحد أصدقاء الطفولة.. لا أستطيع أن أتخيل هذا الإنسان الذي يترك مدة أربع سنوات جمالا إليها بديعا كهذا الجمال. أنني أصبحت أقضي معظم وقتي فوق الاكمة أنظر إليها وهي تجمع الأحطاب وأتعمد أن أجعل عيني تلتقيان بعينيها.. وابتسم لها. ولولا خوفي من السنة الناس لتحدثت معها بل.. لقضيت معها ساعات جميلة. أنها في العشرين من عمرها.. سمراء بلون الأرض التي تعيش فوقها ذات شعر أسود كالليل .. وأنف مدبب حاد عليه سيماء الحزن الذي ترسله عيناها السوداوان الكبيرتان ذات الشعاع اللامتناهي من الحنان والرقة... وهناك شفتاها الصارمتان.. والرقيقتان معا. أما قوامها فلا أستطيع تحديدا له.. إلا أنه جميل.. رائع تحت ثوبها الأسود الحزين كحياتها.

(4)
لن أبقى لحظة.. سوف أغادر القرية.. سأعود إلى المدينة .. إلى الصخب.. والدفء.. والصداقة.. إلى الحياة التي تشعرني.. الإحساس بها...
أذن لقد تركتني .. لقد أحسست بذلك منذ أن ودعتني في ذلك اليوم الممطر. أتمنى لك حياة سعيدة أينما ذهبت.. أنني أعرف أن صداقتنا كانت من أروع ما عشته في حياتي. يا صديقي أبكيني أينما كنت .. لأنني أتمزق.
سأنهي إجازتي في القرية.. ولكن سأقفل منذ الغد باب الحجرة.. ولن أرى أحداً. سأظل أطل من نافذتي الصغيرة على العالم.. سأرى الأمطار وهي تتدفق فتمحوا كل ما رسمته أقدامنا من خطوط.. وأعلق نظري على أكمة الجبل حيث تجلس فتاتي الجميلة. نعم يا صديقي .. أنني أشعر أن بداخلي شيئا يتحرك شيئا سيحطم حياتي كلها.. وربما حياة من أعيش بينهم. ولكني سأستمر ولن أتوقف مهما كانت الخطورة. دعهم يتحدثون بما يشاءون. فليقولوا أن " نعمان " يعشق زوجة " درهم بكر " وليقولوا أنها أيضاً تعشقني.. فما دمنا كلانا نجد السعادة في أحضان.. الحب.. أو الخطيئة.. سمها ما شئت.. فلا يهمنا ما يقولون. لأن دماء الشباب الحارة المتدفقة لا يستطيع أحد أن يوقف تدفقها.
لم تخبرني إلى أين ستذهب للعمل. كل ما سمعته أنك ذاهب إلى فرنسا.. حيث وجدت لك عملا.. لا تنس.. واجعل رسائلك دائما مليئة بالحياة. وصف لي ما سيحدث لك فربما.. ربما فقط أهرب من حياتي هذه .. وأرافقك. ولا تنسى صداقتنا هذه لأنها ما زالت طرية.. كعود الياسمين لا تتحمل هزات الرياح البسيطة.
كل شيء يا صديقي صامت .. حزين.. كأنني في مقبرة .. وحولي شواهد القبور المخيفة.. كم أكره المقابر.. وسكانها. وداعا يا صديقي وبلل دائما خدك بالدموع كلما تذكرتني لأنني سأفعل مثلك.
التعديل الأخير تم بواسطة د. مختار محرم ; 06-11-2012 الساعة 02:42 AM

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
05-11-2012, 10:47 PM #2 الصورة الرمزية د. مختار محرم د. مختار محرم  د. مختار محرم غير متواجد حالياً
المؤسس

تاريخ التسجيل
Aug 2011
المشاركات
1,964
معدل تقييم المستوى
10
افتراضي
(5)
لم يبق سوى شهران.. وأغادر الجميع إلى المدينة مرة أخرى. آه يا صديقي كم أنا مسرور.. وحزين أيضاً.. مسرور لأنني سأغادر " مقبرة الموتى "هذه، وأرى مدينة الأحياء من جديد، وحزين لأنني سأغادر فتاة الجبل السمراء.. وأقسم لك أننا لم نتعد مجرد الأحاديث في البداية. لقد كان كلانا خائفاً من " أفواه الموتى " التي لا تصمت والتي تصنع كل يوم قصة جديدة لتجدد أحساسها بالحياة.. على حساب آلام الآخرين. أن الحياة عند هؤلاء الناس هي في موت الآخرين وأن الطيب لديهم هو من يسرقهم ويضحك على لحاهم البيضاء الوقورة. دعني أقص عليك حادثة بسيطة.. أضحكتني .. وآلمتني معا..
كان ذلك منذ شهر حين توقف الأمطار فجأة وبدأت البراعم الخضراء تذبل.. وتصفر.. ثم يبست معظمها. وهلع الناس لتلك المصيبة التي حلت بهم وامتلاء المسجد ذات يوم بكل سكان القرية يصلون.. ويدعون.. كأن صلاتهم ودعواتهم .. ستنزل عليهم المطر. ولكن مضى أسبوع ولم تفد الصلاة. واجتمع ذوو الدقون البيضاء الطويلة والمسابح " الكهرمانية " الغالية ليقرروا قرارا هاما إزاء اصرار الأمطار وعدم نزولها. وقرر الجميع وسط بكاء النساء وضحكات الأطفال الذهاب إلى الاكمة.. مكاني الصامت الهادئ المقدس.. والصلاة هناك ونحر ضحية لله لينزل الأمطار من " بحر القدر ".. وذهبت الضحية إلى بطون الأطفال ولم تنزل الأمطار وابتدأ الهمس حتى وصل إلى سمعي. أنهم يقولون أن " نعمان " هو السبب في عدم نزول الأمطار. وخفت في أول الأمر.. ولكن القضية تافهة فلم أعرها التفاتا. ولكن فتاة الجبل السمراء قاطعت الاكمة.. لقد شعرت أن الأمر يعنيها أيضاً. ولكن بالرغم من ذلك لم تنزل الأمطار وأحسست بالشعور يملأني فرحا وأنا أرى هؤلاء الناس يولون بل وتصفر وجوههم.. وأفرح أكثر لمرأى الخوف البادي على تصرفاتهم. ولكني شعرت ذات يوم بأن المأساة تخصني.. حتى وإن كنت بعيدا عنها. وذلك حين عدت من " الاكمة " ورأيت زوجتي تبكي في أحضان أمي.. التي بدأ بصرها يكف أكثر وأكثر وسمعت أبي يحدثها قائلاً:
-لا فائدة منهم أن طلعوا رجال.. فليفيدوا أنفسهم.. أما أنا فسأموت غدا.. ولا أحد سيذكرني.. وأرى أن موتي أمر محقق أن استمرت الحال علي ما هي عليه. وأجابته أمي والدموع تتساقط من عينيها الكفيفتين قائلة لهم: الله ولا كأنهم يعرفوننا .. وسمعت صوت زوجتي ولكنه كان رقيقا هادئا.. كأنها لا تتكلم ولكن تبكي.. ولم أسمع ما قالته.. وصمت الجميع حين أحسوا بقدومي.. وماتت الكلمات وكدت أصيح فيهم:
-لماذا تتوقفون؟؟ استمروا في أحاديثكم.. ألعنوني.. ألقوا جام غضبكم علي.. اطردوني .. أنني لا أريد أن أعيش معكم..
ولكني لم استطع.. لأن الحزن كان قد بدأ يحتل مكانا في قلبي.. وخفت على نفسي أن انهزم لأن مشاركتي لهم في أي أمر معناه انهزامي وهذا ما أرضاه لنفسي.
المهم لم تسقط الأمطار طوال شهر كامل.. وشعر الناس أن المأساة قد أصبحت حقيقية وأنه لا مفر منها.. وهنا ترى الجشع يظهر لأول مرة.. فهؤلاء الناس الذين كانوا بالأمس أصدقاء يعيشون.. ويتحدثون ويصلون قد انقلبوا إلى أناس لا يعرف بعضهم بعضا. لقد كان كل واحد منهم يخاف أن يطلب منه الآخر نقودا لشراء حبوب لأسرته.. أو يسلفه قليلا من الحبوب المخزونة لديه. وصارت الأفواه التي كانت تنادي بالتعاون ضد الزنادقة والمارقين أمثالي، تنادي الآن بأن يجنبها شر كل الناس. آه لكم كنت أحب أن تكون هنا في القرية لعلك ترى كل ما دار وما سوف يدور. تصور أن والدي ذهب يطالب بعض الناس دينا كان عليهم فأنكروا.. بل أشد من ذلك أن شيخ القرية ذلك الحاج الذي زار بيت الله الحرام أكثر من مرة أنكر جميع النقود التي أرسلت معه من المهاجرين بقريتنا.. والتي هي مرسلة بواسطته إلى زوجاتهم وأولادهم. أن هناك عشرات غيرها من القصص.. التي تضحك وتبكي معا. لقد أراد والدي أن لا يجعلني عبء الأسرة وحدي فكتب لأخي أن يرسل له قليلا من النقود حتى يستطيع أن يواجه المجاعة التي سببها عدم سقوط الأمطار.. ولكنه لم يرد بكلمة.. وهكذا كان علي وحدي تحمل كل أعباء المجاعة لماذا؟ لا أدري.
أن كل ما جرى يا صديقي شيء بسيط. فمنذ أيام فقط.. رأيت رجلا في حلة بيضاء وعمامة كبيرة تحيط برقبته سلسلة كبيرة من المسابح اللامعة وفوق وجهه لحية بيضاء كثة وتحت قدميه حذاء غريبة اللون.. ولم يثر في حين رأيته سوى السخرية تجاه هؤلاء " الدراويش " الذين لا عمل لهم سوى التطفل على الآخرين. ولكن الذي حدث بعد ذلك بأيام كان مثيرا.. فقد ذهب ذلك الرجل إلى المسجد وأوهم الناس أن شخصا ما قد وضع فوق الاكمة " رسمة " فيها ورقة تمنع نزول المطر.. وأنه يعرف مكان هذه " الرسمة " أن دفع له مبلغ معين من قبل الجميع.. وكما تعرف وافق الجميع بدون تردد وكان الجميع مؤمنين بأنني أنا الذي وضعت تلك " الرسمة " فوق الاكمة لترددي الكثير عليها وشعرت أن المسألة تمس كرامتي أنا أكثر من الآخرين.
وبد أيام قاد الرجل جميع سكان القرية إلى الاكمة حيث طلب من الجميع أن يصلوا ويطلبوا من الله الرحمة. وبعد انتهاء الصلاة رأيته يتمتم بكلمات ثم أشار إلى أن يأتوا بشيء ما وتبينت أن ذلك الشيء كان خروفا أبيض اللون تماما. وقبل أن يذبحه كان شيئا في داخلي يدفعني.. فصرخت بالرجل:
-أنت كاذب.. ليس هناك شيء..
فنظر الجميع إلي في صمت ثم سمعت هدير الحاضرين.. ولكن الرجل ابتسم وهو يقول:
-أنا لا أكذب..
-أذن هل لك أن تخبرني كيف عرفت أن هناك " رسمة "؟
-الله يلهم من يشاء. وأشار إلى السماء في خشوع ثم سجد إلى الأرض ورأيت طرف عينيه وهي تنظران إلي في سخرية.. كأنه يقول:
-إنك لا تستطيع عمل شيء
وكان موقفه التمثيلي ذلك سببا في أن سجد الحاضرين.. ذب الخروف.. وشمر الرجل ساعده وبدأ يحفر .. ورأيت أنه يحفر بخطة مرسومة.. والجموع من حوله تنظر بلهفة خاصة الأطفال.. والنساء. بينما جلس الكبار يتمتمون.. وينظرون إلي بأطراف عيونهم.. وأخيراً أخرج الرجل من التراب شيئا ما.. وسجد بنفس حركاته التمثيلية وصاح:
الحمد لله.. الحمد لله .. أتى الفرج وضاعت صيحته وسط صيحات الناس الذين أدركتهم المفاجأة.
وضحكت في نفسي لأنني رأيت الرجل أمام عيني وهو يخرج تلك " الرسمة " .. وغمز لي منتظرا. ولم أستطع أن أجادله أمام هذا الجمع من الناس المؤمنين بكل ما يعمله.. ولكني تنحيت بفقيه القرية " الحاج جازم " وجعلت أناقشه في الأمر؟ قلت له: أنك رجل عاقل متعلم.. وأنت تعرف أن هذا الرجل يغش الناس ويسرق نقودهم.. هل يأمرك الدين يا فقيه أن تسايره فيما يقوله.
وهز الفقيه رأسه وأجاب: لا .. ولكن ما دام الناس يعتقدون ذلك.. فليس لدي حيلة..
-ولكن كيف تتركهم لنصاب..
-أنه يعرف ما يعمل.. ولا يستطيع أحد أن يناقشه..
-ولكن الأمطار لن تنزل لمجرد أنه أخرج شيئا ما من تحت التراب.. وأقسم لك أنني قد رأيته يدسها في التراب بعد أن أخرجها من جيب قميصه.. ونظر الفقيه إليه في حذر وقال: أنك تعرف ما يقوله الناس.. وأشار إلي محذراً..
ولكني أجبته بهدوء: إن كان الله يصدق كلام الدجالين فليس هو بإله.. وأنا أعرف تماما أن الأمطار لن تنزل.
وتركت الفقيه والناس والرجل يختلفون. ومضى اليوم الأول.. ولم تنزل الأمطار. وتبع الثاني وفي اليوم الثالث كان الرجل قد اختفى فجأة كما ظهر.. واختفت في جيبه أكثر من 100ريال.
ومضى الأسبوع وبدأ الناس يهمسون قائلين.. أن الرجل قد أخرج " الرسمة " من قميصه .. دون أن يراه أحد وبعد أسبوع ثاني كان الأمر حقيقة عند كل شخص في القرية.. ولكن بعد أن ذهبت الريالات في جيبه.
وهكذا لم تنزل الأمطار.. وازداد خوف الناس أكثر من ذي قبل وبدأ شبح المجاعة يعود إلى أذهانهم.. خاصة وأن مجاعة (1948) ما زالت ماثلة في أذهانهم.. ولم يزل الكبار يذكرون كيف كانوا يأكلون " العاص " وحده.. وكيف كانت حبة " الغرب " أغلى من الذهب. عادت الأمطار فجأة..
كان الوقت ليلا والقمر يرسل أشعته الفضية على قريتنا وعلى الجبال المحيطة بها فيصنع جمالا رائعا وهدوءا غريبا جعلني أحس " بالجمال " الحقيقي لطبيعة بلادنا. كنت جالسا أنظر إلى السماء وإلى القرية والجبال ذات المدرجات الزراعية البديعة الهندسة وبجانبي زوجتي تصب لي قحا من " القشر " وأشعة القمر تنعكس على وجهها الأصفر الضعيف.. فتبدو لي جميلة إلى حدود بعيدة وبدا لي ثوبها الأسود الحزين آية في الروعة والتناسق مع جسمها وأحسست أني أملك جمالاً نادرا.. لم أشعر بوجوده من قبل. وبدون شعور وبعد أن غلبني سحر القمر والليل احتويتها بين ذراعي وقبلتها.. وأخذتها المفاجأة. فأنا لم أتعود أن أفعل ذلك. بل أنني لم أشعرها مرة واحدة منذ سنوات ثلاث بحبي لها.. فكان أن بكت. وشعرت بدموعها الحارة تلهب صدري.. وتدفئه معا وشاركتنا السماء في تلك الليلة وغمرتنا بدموعها. ونظرنا سويا إلى السماء ورأينا السحاب وهي تغطي شعاع القمر الفضي ثم وهي ترسل دموعها أكثر غزارة ولم نهرب.. ولكنا تعانقنا وتركنا الأمطار تعانق الأرض العطشى.. وتفعل ما تشاء.. وحين عدنا إلى غرفتنا كنا مبللين تماما.
(6)
يا صديقي.. أنني تائه.. لا أدري ما الذي أعمله. إن زوجتي ليست في جمال " فتاة الجبل السمراء ".. ولكنها بسكوتها وحزنها الدفين.. ووجهها الأصفر الضعيف تقلب حياتي رأسا على عقب. أنني أعرف أن حبنا القديم لن يعود إلى الحياة.. لأنه مات بعد زواجنا. لأنه كان مجرد رغبة عابرة انتهت. إن الزواج والحب في بلادنا.. ليسا سوى مجرد لعبة الرجل بالمرأة التي ليست سوى خادمة .. للأرض.. والبيت .. والزوج. إنها مجرد زهرة تتفتح قليلا ثم تموت.. حين ينهكها العمل. وكذلك هي زوجتي.. كانت ناضرة.. كزهرة.. فأصبحت الآن عودا يابسا. وأصبحت .. رغم أنها لم تتجاوز الخامسة والعشرين .. عجوزا .. كأنها على أبواب قبرها. إنها منهكة مريضة.. قل لي ماذا أعمل لكي أسعدها. أنها تحبني حبا حقيقيا عنيفا.. لا يعرف قيودا أو حدودا. لقد كانت تبكي فوق صدري ومياه الأمطار تغرقها وهي تردد أسمي نعمان .. نعمان .. نعمان. كأنه صوت موسيقي إلهي.. ذو نم رائع. وحين عدنا إلى غرفتنا كان شيئا ما في صدرها يثقلها.. ويسرها معا..
وكانت كأنها تغالب شيئا ما.. ولكنها أخيرا قالت لي:
-نعمان.. أن في داخلي شيء يتحرك.
ونظرت إلي في عذوبة كأن ذلك الذي في داخلها يدفعها إلى الابتسام.. والرقة.. ولم أستطع أن أخفي سروري فعانقتها .. وغمرتها بقبلاتي.. أنني حائر ماذا أعمل..؟؟ أنقذني يا صديقي .. أنني الآن فقط أدرك إنني لا أستطيع أن أكون مسئولا عن إنسان أنا السبب في وجوده.. ألا يكفي أنني أشقي في وجودي لأكون السبب في شقاء الآخرين.. ماذا أعمل؟؟ قل لي بربك.. الأمطار .. الأمطار .. لقد انقلبت إلى جحيم . كل ذلك التلهف والترقب .. والدعاء كله يا صديقي ذهب هباء.. إلا أن الأمطار لم تعبد الخضرة إلى البراعم التي كانت قد بدأت تتفتح فوق المدرجات. بل لقد حملت تلك المدرجات ورصتها بعضها فوق بعض وحملت الطينة السمراء إلى الوادي. لقد أصبحت الأرض الخضراء تسيل فوقها المياه. لقد خرب كل شيء وذهب تعب الأجداد في بناء هذه المدرجات.. ربما الأبد. بالأمس خرجت كعادتي إلى الدبل رغم أن مياه الأمطار لم تنقطع منذ أسبوع.. ووجدت الطريق قد أصبح كله بركاً.. من الطين الذي حملته المياه من المدرجات ووجدت الجبل رغم أن مياه الأمطار لم تنقطع منذ أسبوع.. المدرجات ووجدت الجبل قد تغيرت كل ملامحه.. فأصبح مجرد أحجار صماء لا حياة فيها. ووجدت أن فتاة الجبل لم تكن هناك. وعدت إلى القرية التي لم أرها منذ أسبوع.. منذ بدأت الأمطار لبعد منزلنا عن القرية كما تعرف. أتدري ما رأيت؟ كانت خالية.. حتى الأطفال لم يعودوا يملأونها حياة بضجيجهم.. ولعبهم. بل أنني رأيتهم جالسين في وجوم ينظرون ناحية الجبل الصغير.. حيث المنازل القيمة. واستمريت في طريقي.. ووجدت أن جميع سكان القرية تقريباً قد ذهبوا إلى تلك المنازل القديمة النائمة في حضن الجبل الصغير. وأسرعت أنا أيضاً إليها. وسألت بعض من قابلتهم.. فقيل لي أن هناك منزلاً قد انهار بالأمس.. بفعل الأمطار. فالدار الذي انهار ليس فيه رجل واحد. إنهم كلهم في الخرج.. كمعظم منازل قرى بلادنا. هناك حول الدار المنهار رأيت النساء يبكين.. وجلس الشيوخ فوق عدد من الصخر يدعون "الله" أن ينجي المدفونين تحت الإنقاض.. وكان هناك خمسة رجال فقط "هم كل من تبقى في القرية" يعملون في شق طريقهم تحت الانقاض إلى سكان الدار. وكان منظراً بشعاياً صديقي أن أرى إنساناً يدفن تحت نظري.. بدون اختياره.. وخاصة إذا كان هذا الإنسان امرأة.. أو طفلاً. كسكان هذا الدار..
ووجدت نفسي قد حملت فأسا وجعلت أزيح الأحجار والأخشاب مع الآخرين دون أن يكلمني أو يلتفت إلي أي من الآخرين. وأقول أن هناك عدد من النساء عملن معنا ذلك اليوم أكثر مما عمل الرجال. لقد كنت أظن أن النساء ماهرات في جميع الأعمال ما عدا الإنقاذ. ولكنهن خيبن ظني. أما لماذا عملت مع الآخرين؟ فهذا ما سأقوله لك الآن. إن الذي دفعني إلى ذلك ليس عملاً إنسانياً أحسست به فجأة.. بل لأن ذلك الدار الذي انهار يا صديقي هو دار "فتاة الجبل السمراء" تصور تلك الجمال الإلهي وهو مدفون في داخل حفرة.. وقد تهشم كل ما هو جميل فيه. كلا.. إن مجرد تصور ذلك الآن أمر مفزع. إن مجرد سماعي إنها كانت في الدار حين انهار.. خلق في اخلي جديداً لا أعرفه. كان مزيجاً من الخوف.. والأمل.. وعملت كما لو أنني لم أعرف العمل من قبل حتى إن سكان القرية.. أكبوا عملي في ذلك اليوم.. ووصفني البعض أنني بطل.. لأنني أيضاً أنقذت رجلاً من الخمسة زلت قدمه.. وكاد أن يدفن حياً.. لولا أن سارعت بجسمي القوي وتلقيت الكتل الخشبية التي كانت تستعمل في حمل أسقف الدار.. وكان العرق يتصبب مني رغم مياه الأمطار والأوحال التي كنت أغوص فيها إلى متصفي.. المهم.. لم يخرج من تحت الانقاض إنسان حي.. أما فتاة الجبل السمراء.. فقد كانت مشوهة حتى أنني لم أتعرف عليها.. لولا أنها كانت المرأة الثانية في الدار. وكان رأسها الجميل ذو الخدود السمراء.. المحمرة والعيون السوداء الكبيرة والشعر الغزير.. كل ذلك كان قد تهشم تحت صخرة كبيرة. وانجست الدموع ولم أستطع أن أبكي.. رغم أن كل شيء كان يدعو إلى ا لبكاء. لعله التعب أو المنظر نفسه.. آه يا إلهي ما أبشع ذلك.
(7)
ودفن الجميع صباح اليوم. وسرت في الجنازة رغم أنني لم أنم بالأمس.. فقد استعدت كل ذكرياتي مع "فتاة الجبل السمراء".. كان لقاؤنا بعد تلك الابتسامة الساخرة ـ التي ألفتها على حين كنت ألعب تحت مياه الأمطار ـ بأيام. وجدتها في نفس مكانها.. وقد بدت في أجمل صورها.. نعم يا صديقي كانت في ذلك اليوم جميلة إلى أبعد الحدود التي أتصورها للجمال. ولكني لم أحدقها بل تركتها بعد أن ابتسمت لها ابتسامة كبيرة. وتعددت لقاؤنا.. وتعدد مع لقائنا.. اهتمامها بنفسها. فكنت أراها كل يوم أجمل من اليوم الذي قبله. وذات يوم.. وكانت الشمس ترسل أشعتها الذهبية في حنان.. والزهور الصفراء تتفتح مع تفتح أشعة الشم.. وغناء عصافير صغيرة من فوق الأشجار بثمارها الناضجة.. تحدثت إليها.. كان عادياًً.. ولكن كان فيه انجذاباً.. ما.. سألتني قائلة:
كيف حال "هند"؟
قلت لها بحياء ـ صدقيني.. كان جمالها يخيفني.. ويشد لساني ـ
إنها بخير..
لقد سمعت أنها تنتظر مولوداً. ونظرت إلي نظرة فيها معنى كبيراً.. لم أدركه.. تسخر.. أم تتهمني بعدم اهتمامي بزوجتي؟؟
لم تخبرني بذلك.. ولعلها مجرد إشاعة.
ولكنها أخبرت جميع النساء في القرية..
وركزت نظرتها أكثر بحيث كنت كلما حاولت أن أنظر إليها أجد عينيها ترشقاني بنظراتها النارية.. وأكملت قولها:
لعل بينكما شيئاً؟..
كلا.. ليس هناك شيء.
لماذا تحاول أن تكذب.. إن الجميع في القرية يعرفون ذلك.. لماذا لم تعد تحبها..
وأحسست بأنني تلميذ صغير أمامها.. وأنني لا أستطيع أن أحبها.. وبسرعة حولت الحديث وجعلت نفسي أنا السائل وهي المجيبة. قلت لها بدون أن أعير سؤالها اهتماماً وكأنني لم أسمعه.. متى يعود زوجك؟
وخضت وجهها نحو الأرض.. وهي تجيب.
لا أدري..
ألا يكتب لك؟
كلا..
ألا تكتبين له؟
إنني لا أعرف أين هو حتى أكتب له.
ومن أين تأتيك المصاريف إذان؟
يرسل أخي لي أحياناً بعض النقود..
لابد إذن أن حياتك صعبة نوعاً ما..؟
وابتسمت.. لماذا تظن ذلك..؟
وهززت كتفي دون أن أجيب..
واستمرت تنظر إلى الأرض.. وتابعت..
إن حياتي ليست صعبة.. فأنا أعمل.. في الأرض وفي البيت.. وأجد لقمة العيش... دائماً.. كذلك أجد ملابس من أخي.. أو من والدي.. أما زوجي فأنا لم أعد أهتم به.. لأنه لا يهتم بي..
لماذا لا تطلبين الطلاق...؟
إن ذلك ليس بسيطاً.. لأن الأمر ليس في يدي. وهو ليس بالبساطة التي قد تتخيلها.
وعرفت ما تعنيه..
(8)
واستمرت علاقتنا.. نتقابل كل يوم ونتحدث.. وأخيراً كان ذلك الكهف ـ الذي عرف جزءاًِ كبيراً من أيام صبانا حين كنا نرعى ـ كان مكان لقائنا. وتمتعنا بالحياة. أقول لك الحق أنني شعرت بالمتعة الحقيقية مع هذه الفتاة أكثر مما عرفتها مع غيرها حتى زوجي. كنت يا صديقي امرأة محرومة مع زوجها منذ سنوات. وأنا لا أجد ما أريده في المنزل. زوجي في عملها منذ الصباح حتى المساء.. وأنا عمل لي منذ الصباح حتى المساء. وهكذا وجدنا أننا نستطيع أن نهب بعضنا السعادة. لقد كانت بداية علاقتنا.. علاقة بريئة.. ولكن لماذا لا تستعمل الفرصة.. وتتمتع. هل هناك مانع.. في داخل أنفسنا.. لكن كنا خائفين في البداية.. ولكن خوفنا تلاشى عندما أدركنا.. أنا سعادتنا هي فوق كل خوف..
والآن يا صديقي.. ماذا أعمل؟ سوى أن أذهب إلى ذلك الكهف الذي ذقت فيه أروع أنواع المتعة.. وأذرف الدموع لقد ماتت.. وياليت موتها كان موتاً عادياً.. بل لقد سلبها الموت أجمل ما فيها.. جمالها يا صديقي. الآن لو عرف سكان القرية علقتنا.. لقالوا إن الألة انتقم منها.. ودفنها تحت انقاض دارها.. أما أنا فإنني ألعن الأمطار في كل ساعة. وكل دقيقة.. لأ،ها سلبتني المتعة.
لقد عاد الفراغ من جديد.. أرجو أن أجد مخرجاًَ منه.. في العمل.. في الحقل.. أو في أي شيء. خاصة وأنني قد طلبت إطالة إجازتي حتى أستطيع أن أساعد والدي.. في بناء أرضنا من جديد.
عاد الجمال من "عدن" بالأمس وحمل معه أخبار كثيرة.. إضرابات العمال.. والمظاهرات التي قام بها سكان المدينة ومقتل طالب في السادسة عشرة من عمره في إحدى هذه المظاهرات.. وتزول قوات إنجليزية جديدة في المدينة.. وغيرها من الأخبار التي لا اهتم لها كثيراً. ولكنه حمل معه أيضاً رسالتين.. منك.. ومن "الصنعاني"
إن رسالتك كانت رائعة حقاً. وأظنها ستكون مساعدة على جلوسي في القرية أكثر مدة ممكنة. أما الصنعاني.. لم أكن أتوقع أن أجد منه رسالة.. خاصة وأنه لم يكتب لي منذ مغادرتي "عدن" نه يقول إنه متشوق إلى لقائي. لعنة ا لله.. نه منافق كبير.. كما تعرف. لقد فصل من عمله بسبب الإضراب الذي قام به عمال الميناء الشهر الماضي.. وكان هو من المحرضين على هذا الإضراب. إنه كما تعرف رجل فوضوي.. لا يهتم بشيء ما في حياته.. سوى النوم.. وأكل القات.. وشرب الخمر في حافة اليهودي. إنه الآن ينافقني وأظن أن بينه وبين أخي "سيف" سوء تفاهم لأنه يمتحني كثيراً. وأنت تعرف موقفه من قضيتنا أنا وأخي.. وإنه كان من الواقفين في صفة لأنه أحد أفراد مجموعة "سيف" ا لتي تقضي سهراتها الحمراء معاً.. في "السيسبان" عند "فاطمة".. خاصة بعد أن اختطفها أخي مني..
أه كلما تذكرت ذلك التهب نفسي.. لقد هزمت في تلك المعركة. لا لشيء.. إلا لأن أخي كان يملك مبلغا من المال لم أملكه أنا.
(9)
لماذا أتذكر الماضي.. دعني أستمر في وصف الحاضر.. لقد بدأت الأمطار تقل تدريجياً.. لكن تهدم المدرجات الزراعية لا يزال مستمراً. فبالأمس تهمد أكثر من خمسين مدرجاً الواحد تلو الآخر. وأصبحت الأرض.. التي بجانب الجبل من الناحية الشرقية الوادي.. بعد أن جرف السيل الذي نزل من قمة الجبل كل الطين الموجود في المدرجات.. وأصبح الآن العمل لا ينقطع.
لقد عاد "محمد مقبل" من "عدن" بعد أن سمع أخبار الأمطار ولكم سرني ذلك لأن وجوده بجانبي يساعدني على تحمل أيامي في القرية. ولو أن هذا العجوز سيكلفني يومياً صمن "قاته" و "تمباكه". غلا أن سيمتعني بأخباره ومغامراته. إنني لم أنس بعد أيامنا في "مقهاية الحاج علي" وهو يحكي لنا اشتراكه في "حرب الحبشة" مع ا لإيطاليين. إن هؤلاء المغامرين.. ممنعون حقاً. لو كنت تراه بالأمس.. لقد كان يضحك من كل شيء.. رغم أن كل شيء يدعو للبكاء. لقد أخبرني بأن أخي "سيف" أصبح هذه الأيام يذهب إلى العمل كثيراً حتى أنه قد يفصل. وأن فاطمة" قد استحوذت على كل ما يملك.. نقوده لها. لقد أصبح سبه. أما زوجته فقد عادت مرة أخرى إلى منزلنا بعد أن نفذ كل ما كانت تملكه من حبوب. عادت مع إبنها الصغير.. واستقبلها أبي بدموعه. لقد بدأ منزلنا يترك صمته. ولكن بعد أن حدثت المأساة.
إن محمد مقبل يعيش معنا في المنزل.. فأنت تعلم أنه لم يتبق له أحد من أهله بعد أن ماتت زوجته ـ وهو الحرب ـ وهاجر ابنه الوحيد بحثاً عنه. ولم يعد.. واستولت الحكومة باسم الوقف على كل أملاكه. أما داره فقد تهم.. إنه ينفعنا كثيراً فهو لا يسأم العمل مطلقاً. إني لا عجب كيف أستطاع أن يحبس هذه القوة العملية الخلاقة مدى عشر سنوات ي "عدن" بدون عمل.. إنه يبتسم كلما سألته عن ذلك ويجيب.. قائلاً: "نحن لا نعجز أبداً.. انظر إلى هذه القرية.. إن أجدادنا هم الذين حملوها إلى هنا في هذه المدرجات وهي رغم السنين الطويلة.. ما زالت شابة.. تنتج كل عام.. فلما تريدنا نحن أبنا هذه التربة أن نعجز. أنه ما زال فيلسوفاً كما أعرفه..".
لقد بكى والدي بالأمس.. وجعل يشني إليه. إنني في نظره قد خلقت من جديد. وكانت زوجتي تنظر إلينا.. وهي تبتسم من خلال دموع الفرح النازلة من عينيها. آه كم هي الحياة جميلة يا صديقي.. حين تعمل لقد كنت غبياً من قبل. ولكن هذه الشهور الثلاثة في القرية أعادت إلى شيئاً من الأمل ماذا أقول لك يا صديقي هل أقول أن موت "فتاة الجبل السمراء" قد هزني من أعماقي. كانت جميلة.. وكنت أؤمن أن ا لجمال لا يموت. ولكنه مات. ووجدت أن الأشياء التي أومن بها تتحطم.. الواحدة بعد الأخرى. ذهبت مني "فاطمة" اختطفها أخي. واختطف القدر مني "فتاة الجبل السمراء" فلابد إذن أن أنتقم من ا لاثنين. بأن أعمل أن أعيد ما حطمه السيل.. أن ابني أرضنا من جديد.. ,أن خلق في قلب والدي املاً جديداً.. بأنني أعظم من أخي. دعه يموت هناك المدينة.. دعها تحطمه.. إنها تنتقم لي بدون أن تشعر. آه يا "فاطمة كم أنت جبارة.. حطمية لا تتركي منه شيئاً..
آه يا عزيزي لماذا تراني أكره أخي كل هذه الكراهية. أفتاه تصنع كل ذلك؟ . أن "محمد مقبل" يقول لي دائماً "بأنني لقد مارت الحياة أكثر منك.. وأنا أعرفها.. إنها غدارة.. فلا تؤمن لها.. بل لابد وأن ننتزع منها المبادرة" كيف استطيع أن أن أتحدى القدر.. نعم لقد وجدت الوسيلة.. أن أكر القدر.. أن لا أؤمن بأن هناك قدر. هكذا سأنتصر عليه. أن "محمد مقبل" يمثل المرأة بالحياة.. إنه يقول "إن الحياة غدارة يا بني. والمرأة كذلك فهي تبتسم لك دائماً.. ما دام في يدك شيئاً. أما حين تكون فارغة.. فلا تنتظر منها سوى بصقة على وجهك: إنه على حق في نواح ولكنه مخطئ.. خذ مثلاً زوجتي.. مهما عملت لها.. فلن تبصق في وجهي. لماذا؟؟ لا أدري.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
05-11-2012, 10:52 PM #3 الصورة الرمزية د. مختار محرم د. مختار محرم  د. مختار محرم غير متواجد حالياً
المؤسس

تاريخ التسجيل
Aug 2011
المشاركات
1,964
معدل تقييم المستوى
10
افتراضي
(10)
وأخيرا سأودع القرية .. لدي ساعات قليلة قبل أن يحل الليل.. ففي الغد سأكون في السيارة في طريقي إلى " عدن ". أترى يا صديقي سأجد الحياة كما تركتها. إن "محمد مقبل " لا يريد أن يعود. أنه يبتسم لي دائماً ويمد يديه إلى الأمام ويتنفس بشدة ثم يقول:
" أتريدني أن أترك كل هذا النعيم.. هذا الهدوء الملائكي لأعود إلى ضجة الشمس.. إلى الماخورة. كلا .. إن المسجد سيكون مكاني المفضل.. سأعمل.. وسأعيش.. وسأموت.. في هذه القرية لن أتركها بعد الآن. لقد آمنت إن الإنسان يجد الهدوء في آخر حياته ".
وهكذا ترى أنني لن أجد في " مقهى الحاج علي " سوى الصنعاني وقد أجد أخي " سيف" كذلك . وسأحاول أن أكون طيباً معه. لأن الأشياء التي رأيتها هنا في قريتنا تحتم علينا أن نتحد. وهذا العام الذي مات فيه كل الزرع..
وأصبح الخراب شيئاً حقيقياً والمجاعة شيئاً حقيقياً، يجب عليه أن يشاركني في تحمل أعباء الأسرة.. أو على الأقل في تحمل أعباء أبنه وزوجته.
لو ترى الخراب الذي عم هذه الأرض.. لامتلأت عيناك بالدموع ولرثيت لحالة هذا الشعب.. الذي أنهكه كل شيء حتى حكومته. تصور.. وصل بالأمس إلى قريتنا أكثر من عشرة " عساكر " من " العكفة " مع " جابي الضرائب ". وطلب من قريتنا ضرائب هذا العام.. بل أنه طلب ضرائب الأرض.. وإنتاجها. أتتصور ذلك.. الناس لا يجدون نقوداً لشراء حبوب تقيهم عامهم القادم كله من المجاعة والحكومة تطالب بضرائب زرع لم يجنوه.. وضرائب على رؤوس ماشية جرفها السيل ذات يوم.
(11)
آه لقد نسيت أنني لم أقص عليك هذه الحكاية من قبل، ففي يوم من أيام الشهر الماضي خرجت الأغنام والماشية مع صغار أطفال القرية إلى الجبل يرعوها خاصة وأن الجو كان صافياً نوعا ما.. ولم يكن هناك دليل على أن الأمطار قد تسقط. وغرهم الجو وجمال الوادي.. وخاصة وأن هناك بركة كبيرة صنعتها الأمطار. فنزلوا مع أغنامهم وماشيتهم إلى الوادي.. وذهبوا إلى البركة يلعبون ويسبحون. كان كل شيء عاديا.. الأغنام في وسط الوادي حيث وجدت الكثير من الأعشاب بفعل الطين الذي حمله السيل من فوق الجبل والصغار في البركة يسبحون.. والسماء صافية.. والجو هادئ. وبدون مقدمة سمع الأطفال هديراً صاخباً يأتي من الناحية العليا من الوادي.. وخرج الصغار من البركة هاربين إلى كل ناحية من نواحي الوادي. ولم يكن هناك وقت كاف ليسرقوا الأغنام والماشية من داخل الوادي. وأقبل السيل.. وفي مقدمته كانت الأشجار والماشية.. بل والأطفال الذين خطفهم من القرى الأخرى ومن ضفاف الوادي العليا. وذهبت معظم حيوانات القرية. وكذلك أخذ السيل ابن " علي الزغير " وابن " مقبل الحاج "الذين كان من سوء حظهما.. ومن إحساسهما بالواجب أن بقوا يكافحون من أجل إخراج أغنامهم وماشيتهم من الوادي. فكان أن ذهبوا أيضاً مع السيل.. حتى ملابس بعض الصغار لم يرحمها السيل. فعادوا " عرايا " يرتجفون من البرد والخوف.. وكانت دموعهم لا تهدأ.. ورغم ذلك فقد ضربوا كلهم في بيوتهم لإهمالهم. لم يفرح الآباء لعودة أبنائهم أحياء.. بل أن حزنهم على فقدان الماشية كان أكثر من حزنهم حتى على أطفالهم.. لأن الماشية تعتبر الآن وفي هذا الوقت من أوقات المجاعة .. عصب الحياة الأول. وفقدوا سكان القرية لماشيتهم معناه فقدانهم الكثير من مقومات الحياة.

وهكذا ترى يا صديقي أن السيل .. والأمطار .. كانت لا تحمل الخير هذا العام. بل أنها كانت فظيعة.

بالأمس.. ودعت كل الأماكن العزيزة على نفسي " الاكمة " والكهف والجبل الذي تنام فوقه المنازل القديمة. ورأيت أثار الدار الذي تهدم.. وأسقطت دمعتين ومضيت إلى المقبرة. وكان ذلك بعد أن غربت الشمس وضعت على القبر وردة حمراء جميلة كانت تعشقها " فتاة الجبل السمراء "، فتاتي التي أخذتها الأمطار.. وتركتني أصلي من أجلها..

كل شيء هادئ الآن في القرية . الظلام يسيطر على كل شيء. ومن وراء الغمام يبدو وجه القمر ضاحكا.. مسرورا.. كأنه يقبل حبيبته. أرى أمامي المدرجات وقد بدأت تستعيد حياتها من جديد.. بعد صيف طويل .. شقي. وفي الجانب الآخر من السقف حيث أقف.. تجلس زوجتي تنظر إلي ولا تتحدث. أنها ما زالت صامتة كما أعرفها. ويدور في خيالي أمل.. في أنني قد أستطيع أن استقر في " عدن " هذا العام.. وأجد مكانا صالحا.. أخذ إليه زوجتي.. وأخلصها من عذابها .. الصامت. واسمع صوت والدي في " ألم " يستعجل أهل البيت في إنهاء ما قد أحتاجه في السفر.

أما " محمد مقبل " فقد انعزل هذا اليوم عني.. كأنه لا يريد محادثتي. لأن الوداع.. كما يقول صعب لا يتحمله. ولكن الحقيقة أنه يحاول أن يتركني وحيدا مع زوجتي. لعلنا نستطيع أن نتحدث بهدوء ونتساءل فيما نتحدث..؟ فلا أجد جوابا. كل منا جالس في مكانه صامتا ينظر إلى الآخر ثم يبتسم لعلها ابتسامة .. كئيبة.. يضعها كل منا حتى لا تدمع عيناه.

وداعا يا قريتي.. وداعا يا زوجتي.. وداعا يا كل أحبابي لن أنساكم .. مهما كان بيننا.. لأن المأساة الكبيرة تجمع بيننا.

أ:تب إليك الآن من عدن.. حيث الحر.. والفراغ. أكتب إليك بعد أن نجوت من الموت بأعجوبة. نعم.. كل شيء في بلادنا أصبح هذه الأيام يؤدي إلى الموت. الأرض.. الأمطار.. الجبال. الصحراء وكل شيء.

بعد أن ودعت القرية وغابت عن ناظري كان معي اثنان أبيا أن يتركاني.. حتى أصل إلى الوادي. زوجتي ومحمد مقبل. كم كانت زوجتي رائعة. لقد كنت أرى الدموع تكاد تخترق عينيها الجميلتين.. الحزينتين. ولكنها بابتسامتها تحيل كل شيء كئيب إلى جميل. وكان حقا كل ما رأيته وأنا أغادر القرية كئيبا محزونا. كانت الأراضي تبدو كعجوز.. تحطم كل شيء فيها وبانت الأخاديد على وجهها.. بشكل بشع. وكانت الأشجار الجميلة التي تغطي مدخل قريتنا قد تحطمت بفعل الرياح والأمطار فنامت على جانبي الطريق كجثث القتلى بعد معركة رهيبة. والمياه.. تشق طريقها وسط كل شيء.. حتى الصخر. إن النعمة الوحيدة للأمطار.. هي أن كل امرأة تستطيع أن تأخذ ماءها من أمام باب المنزل.. بدلا من الذهاب إلى البئر.

وكان " محمد مقبل " يسير بجانبي يحدثني عن كل شيء. وأصبحت لأول مرة استمع إلى نصائحه. لأن في صوته كان ينمو شيء جديد.. ينبئ عن الحزن.. والألم. كانت التجربة التي يعيشها في القرية.. قاسية. لكنها بالنسبة له كانت درسا لأنه أصبح أكثر جدية من ذي قبل. أنني أعرفه في عدن.. يعلق على كل شيء.. ويجعل الأشياء الكبيرة تافهة. كانت له تجارب وتجارب كثيرة جعلته يمارس حياته ببساطة. وكنت أضحك منه من قبل أما الآن فكان حديثه جذابا لا يمل منه الإنسان.

وحين وصلنا إلى الوادي كانت مياه السيل هادئة لأن الأمطار كانت قد بدأت تهدأ. وكان في أمكان السيارات أن تمر وسط الوادي.. وأن تعاود نشاطها. خاصة بعد أن توقفت تقريبا خلال فترة الأمطار الكثيرة. ورأيت في الوادي سيارة حمول كبيرة وقد انقلبت وغاص الجزء الأمامي منها في رمال الوادي وطينه وأصبح انتشالها أمراً صعبا.. لعدم وجود رافعات في بلادنا كلها.. لا في الوادي وحده. وإخراجها الآن يحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة.. وصاحب السيارة لا يملك أجرا يدفعه لهذه الأيادي. وقد حدثني أحد الأشخاص الذين يعيشون على جوانب الوادي عن المآسي الكثيرة التي رآها. وخاصة هاتين الحادثتين اللتين أثرتا فيه كثيرا.. بكى من الأولى.. وضحك من الثانية. الأولى يا صديقي قصة رجل وطفليه. فتاة في السادسة.. وفتى في العاشرة تركوا منزلهم ليذهبوا إلى قطعة أرض يملكونها في الضفة الأخرى من الوادي حيث كان الوقت صباحا ومياه الوادي تترقرق هادئة.. حالمة.. وأشعة الصباح تغمر الكون.. بلونها الهادئ. ولكن الحال لم يكن كذلك في الشمال حيث كانت الأمطار تسقط بعنف.. وتتجمع المياه من الجداول الصغيرة لتلتقي أخيراً في وادينا الكبير. كان الوادي واسعا.. بعد أن جرفت المياه الأراضي الطينية التي كانت على جانبيه. ومر الرجل مع طفليه بالوادي وأراد العبور.. ولم يسمع صوت السيل الذي كان قد اقترب.. لأنه أصم. وقبل أن يصل الضفة الأخرى.. كان السيل قد بان في منعطف الوادي.. وكان أسرع من الرجل الذي أمسك أبنيه بين يديه وحال أن يجري. وتعثرت رجل ابنه الصغير فسقط وأبتلعه السيل. ووقف الرجل بابنته مذهولا من الصدمة. ورأى ابنه يصرخ ويرفع يديه.. ثم يختفي لتظهر رجليه. وقذف الرجل بابنته وخاض الماء لينقذ ابنه. ولكن السيل كان قد اختطف الفتاة أيضاً. وكانت مأساة.. أن تسمع الأبناء يصرخون بأبيهم.. والأب يصارع الماء أيضا ولم تنته القصة هنا. فقد مات الأب.. ومات أبناؤه. وسمعت الأم بالقصة فتركت كل شيء لتقذف بنفسها في السيل.. لعلها تحلق برجلها وأبنائها.
أما القصة الثانية.. فقد حدث في اليوم التالي حين كان الوادي ممتلئا. وكان قد قلب إحدى السيارات التي كانت في طريقها إلى " المصلى " تحمل " تنك " مليئة بالجاز. وحملت المياه هذه التنك معها. وكان على الشاطئ أحد " الأخدام " فرأى تنك الجاز تتدحرج فوق المياه. وكان لا يخاف السيل.. مثل كثيرين من " أخدام " بلدنا. فغاص حتى منتصفه يلتقط التنك ويخرجها إلى الضفة ويتركها.. ليعود يلتقط غيرها. وكان كلما ازدادت عدد التنك التي يلتقطها.. ازداد طمعا في أن يلتقط غيرها.. خاصة وأن سعر الجاز قد ارتفع لانقطاع الطريق بين " عدن " و " الداخل ". وقبل أن يتم العشر تنك.. كان السيل قد التهمه. فقد شعر الرجل بالتعب فلم يستطع المقاومة والتقطت جثته في " سوق السبت ".

(12)
عادت زوجتي.. بعد أن وصلنا إلى الوادي. وتابعت المسير أنا ومحمد مقبل لنصل إلى " المفاليس " لعلنا نجد سيارة مسافرة إلى " عدن " وكان محمد مقبل صامتا طول الطريق ينظر إلى المياه.. ثم إلى الأرض.. والسماء ويتمتم بكلمات ثم يسكت. وتابعت تمتمته حتى أدركت أنه يقول: " إلى متى هذا العذاب يا رب "؟ ولم يكن يعني بالعذاب نزول الأمطار.. ولكنه كان يعني العذاب الكبير الذي كان السبب الأول لشفائنا.
ولم نجد سيارة في " المفاليس " وكان علينا أما أن ننتظر إلى أن تأتي إحدى السيارات.. أو أن نتابع سيرنا حتى (سوق السبت) لعلنا نجدها هناك. ولكني شعرت أن محمد مقبل لا يستطيع مواصلة السير.. فانتظرنا. وكان محمد مقبل ينظر إلى " الجمرك " ثم يبتسم ويعلق ساخرا: " أنها زرية حيوانات ". ثم يشير إلى الحمير الواقفة أمام الجمرك.. ويقول أنظر.. أنها اكسبرس اليمن.. السريع.. ويقهقه وأقبل أحد الجنود إلينا ثم حيا محمد مقبل ومضى. ورأيت شعاع الغضب في عين محمد مقبل.. ثم بصق على الأرض. وسألته:
-هل تعرفه..؟
-لقد شرفني بمعرفته حين أقبلت من عدن.
واستمر يشرح لي الظروف التي جعلته يتشرف بمقابلة ذلك العسكري.
كنت قد تركت السيارة في سوق السبت. بعد أن عجزت عن مواصلة السير حتى المفاليس لوجود سيل قوي في ذلك اليوم. وكنت أحمل في يدي ملابسي القليلة وأبريق شاي كنت قد أخذته من عدن كهدية لك. وحين وصلت إلى المفاليس قابلني هذا العسكري وسألني: هل أتيت من عدن؟ وهززت رأسي إذ أنني كنت في غاية التعب. وحين أدرك ذلك تقدم مني وطلب أن يفتشني لأدفع الضريبة على ما أحمله. وشرحت له أنني لا أحمل سوى ملابسي وذلك الأبريق ولكنه رفض إلا أن يفتش وبدوري رفضت أن أسمح له. ونادى على زملائه العساكر.. حيث قادوني إلى بيت رئيس الجمرك فوق الجبل. وكنت متعبا جدا.. حتى أنني عندما وصلت هناك كنت أشعر بأنه سيغمي علي. ووقفنا أمام رئيس الجمرك الذي كان متكئا يمضغ قاته وأمامه " مداعة " كبيرة مزينة بأنواع من الرسوم. ونظر إلي باحتقار.. وأشار بيده إلى العسكري كأنه يسأل عن قضيتي. وأخبره بما حدث. فنظر إلي مرة أخرى ثم قال من وراء (القات) المحشي في فمه..
-لماذا لا تدفع له؟
وركز عينيه في وجهي وأعاد نفس نظرة الاحتقار. وأحسست بالكراهية تملأني.. وكدت أبصق في وجهه لولا أن العسكري كان واقفا خلفي..
-من أين أتيت..؟
-من عدن.
-ماذا تحمل؟
وأشرت إلى ما في يدي من أشياء..
-ألا تحمل غيرها؟
كلا..
-لماذا؟
وبحركة احتقار أجبته..
-لأنني فقير.. مشرد.
وابتسم ابتسامة نصر.. وهز رأسه مرات وهو يقول: أنكم دائما تدعون الفقر.. مع أنكم تملكون مال قارون.
وأجبته: نعم نحن لسنا فقراء.. بل أغنياء ولكن الآخرين.. والآخرين دائما.. يسرقوننا بأسماء كثيرة.. و.. لكنه قاطعني بأن أشار إلى العسكري أن يفتشني ولما لم يجد شيئا.. نفخ مأمور الجمرك الدخان من فمه بقوة ثم أشار إلينا أن ننصرف. إلا أن العسكري أوقفني.. قائلا.. أمام المأمور:
-حق العكفة يا خبير.. " الأجرة ".
واستعنت بالله في ذلك الوقت.. نهرب من الشيطان يظهر لنا عفريت. ولم أجاوبه لكنه بكل بساطة شدني والمأمور يتفرج على ذلك ولكني أيضا أصررت أن لا أدفع للعسكري أي شيء. وتدخل المأمور.. أمر أن أدفع للعسكري.. وابتسمت.. لكني في الحقيقة كنت أتمزق غيظاً. ونظرت إلى المأمور وصحت فيه.. لماذا أدفع له.. أنني لم أقل له أن يأتي بي إلى هنا. وقد أخبرته من البداية أنني لا أملك شيئا. ولكنه رفض وقادني إلى هنا أتعبني وأتعب نفسه. أن من حقي أنا أن أطلب بأن يدفع لي ثمن تعبي.. لا أن أدفع له أنا ثمن تعبي.. وتعبه. لكنه قاطعني صائحا:
-يا عسكري خذ الأبريق منه.
وبوحشية انتزع العسكري الأبريق من يدي ومضى..
وخرجت من بيت المأمور وأنا ألعن الأبريق.. العالم.. والحكومة وكل شيء.. حتى نفسي. لكني حين وصلت الجمرك.. رأيت عددا من العساكر يضربون أحد الفلاحين. كان قد رفض أن يعطيهم أجرتهم.. وحمدت الله على أن قضيتي لم تصل إلى الضرب. وهكذا تركوني خاليا. ولو لم يكن في يدي الأبريق.. لانتزعوا ملابسي من يدي.. بل لا استغرب أن ينتزعوا ملابسي هذه التي ألبسها.
وهز محمد مقبل رأسه وهو ينظر إلى العساكر.. بملابسهم المتباينة.. وفوطهم الممزقة. والبنادق القديمة المصدأ. والعمائم البيضاء والسوداء الممزقة. المبللة. والأحذية. والأقدام العارية التي يسرون بها. هز رأسه ساخرا.. جيش.. جيش بلادنا الذي يدافع عن حدودنا. قالها متهكما.. وأردف أن لهم الحق في أن يعاملوا الشعب هكذا.. لأنهم لا يجدون شيئا. وعلى كل واحد منهم.. أن يضمن لنفسه.. راتبه.. ويبحث عن لقمة عيشه.
وانطلقت بي السيارة تاركة خلفها محمد مقبل يرفع يده إلي مودعا. ورأيت الوادي خلفه وأشجار النخيل.. والجمرك رأيته يختفي ثم يتمدد الوادي أمامي من جديد.. بأشجار النخيل.. وأراضي زراعية مكسرة.. وجثث حيوانات على ضفتي الوادي.. وأشجار ضخمة.. حملها السيل منذ أيام. وكان صوت محمد مقبل يتردد في أذني: " أننا لا نستطيع عمل شيء لأنفسنا.. ولا لأرضنا.. ولا حتى لهؤلاء العساكر.. إذا لم نخلق من جديد.. نخلق كل شيء.. الناس. والأرض. والوادي. حتى أنفسنا. أننا لا نستطيع أن نعيش مع الحمير في حظيرة واحدة. ولا أن نعامل معاملة الحمير. يجب أن نجد لأنفسنا مفهوما.. وأن نعرف حقيقتنا ".
وانطلقت السيارة بسرعة. كأن ماردا جبارا يطاردها. وكانت ترتفع.. وتخفض. وتصطدم بالحجارة.. وتغوص في أوحال.. وبرك.. ثم تميل على جانبها. ويمسك كل واحد منا نحن الذين فوق السيارة.. قلبه.. ويتمتم البعض بالفاتحة.. وآية الكرسي. وتغيب الشمس وراء الأفق. وتترك خلفها خطا دمويا.. على طول الأفق البعيد. ويرتفع من جانبي صوت " الجروش بوي " الأسمر بأغنية يمنية.. حزينة. وألمح في عينيه.. قصته كاملها. بكلمة واحدة.. والمأساة. وترتفع مقدمة السيارة.. لتميل بعدها بكل قوتها إلى اليمين.. ونتساقط كلنا من فوقها.. كأوراق الخريف. وننجو من الموت بعد أن غرست عجلات المقدمة في حفرة كبيرة. لم يتبينها السائق.. إذ ظنها مجرد.. بركة.. صغيرة من الماء.
ويبتسم " الجروش بوي " –معاون السائق! وهو يختفي تحت السيارة ليعمل على رفع العجلات المدفونة في الحفرة. ويسارع بعضنا إلى مساعدته. ورغم ذلك يرتفع صوته القوي بالأغنية اليمنية.. الحزينة.
وتنطلق السيارة من جديد. بعد أن خلصت من فخها الأول.. لتقع في الفخ الثاني. ونتساقط من جديد. أن كل منا يصنع له مكاناً فوق السيارة.. بحيث يستطيع ببساطة أن يقفز حين تميل السيارة.. إلى أحد جانبيها. وننتهي من الوادي. الوادي الكبير.. حيث أحلام المئات قد دفنت. ويحتفظ الوادي بصمته.. وباسمه " وادي الصميته " لتستقبلنا خلفي.. إلى الجبال والمنازل المعلقة عليه.. والمدرجات الزراعية التي تبدو مخرومة في منتصفها. والجداول الصغيرة التي تبدو في شقوق الجبال فتنتهي أذني في صمت تلك الصحراء. هادئا. حنونا. كليالينا الصيفية فوق سطح المنزل. " نعمان. أنني أتمنى أن لا أموت. حتى أرى بلادنا هذه. كتركيا. أتمنى أن أرى الطريق مرصوفة وخطوط السكك الحديدية تخترق جبلنا. كتلك التي تخترق جبال الحبشة. وأرى السدود على وادينا هذا. وغيره من أدوية بلادنا الكثيرة. فلا يموت السيل ولا تضيع مياهنا في الصحراء. ولا يلتهم السيل أطفالنا وماشيتنا وأرضنا. أتمنى أن أرى بلادنا كبلاد الآخرين.. أتمنى أن لا أموت حتى أشاهد ذلك ". وكنت ابتسم له. وأشعر يا صديقي.. أن أمنيته هي أمنيتي. أمنية الجميع. ولكنني. لا استطيع أن أنسى نفسي. لأن لا أؤمن إلا بما أرى. فبلادي كما أراها ليست سوى " زريبة للحمير ".
ويكبر الوادي أمامي.. فجأة. فأخاله غولا.. كبيرا رهيبا.. فاتحا فاه.. يلتهم كل ما يتقرب من فمه. الناس والحيوان والإله. غولا أسطوريا.. بل إلها. لم يعرفه البشر. ويمضي الوادي.. بعيدا.. فيغيب عن ناظري.. وأشعر أنني تركت خلفي. أرضا.. غريبة انفصلت عني.. بمجرد خروجي من ذلك الوادي ولكن صمت الصحراء يحمل مرة ثانية صوت محمد مقبل..
" لا تنسوا أنتم.. أن هذه الأرض. لن تنفصل منكم مهما هربتم منها. إنها جزء منكم. تطاردكم. ولا تستطيعون منها فكاكا. انتم يمنيون. في كل أرض.. وتحت كل سماء لقد كنت مثلك.. أحاول أن أهرب من واقعي. حملت السلاح وقاتلت الناس.. ناس لا أعرفهم. ولا يعرفونني. ليس بيني وبينهم عداوة.. ولكني قتلتهم. قاتلت مع الإيطاليين وقاتلت ضدهم. كنت أبيع نفسي لم يريد شراء أداة لإطلاق الرصاص وكنت مستعدا أن أبيع نفسي للشيطان ما دام سيدفع ثمنا مرتفعا. كل ذلك يا نعمان. لأني أردت أن أنسى.. أنني يمني.. ولكن الحقيقة. هو أنني كنت أعمل كل ذلك.. لأنني يمني.. لأنني أريد أن انتقم. من الذين شردوني. ومزقوني وسرقوا أرضي.. أردت أن انقم منهم. ولكني أخطأ الطريق. أما الآن فأنا أعرف الطريق. ولن أخطئ. أن ما يؤلمني حقاً.. هو أنني أدركت الحقيقة متأخرا. لكني أحمل الأمل. في أنكم أنتم جيل هذا الوقت ستدركون الحقيقة.. سريعا. عد يا نعمان. ولا تهرب. سواء كنت في عدن أو في القرية. فأنت تمارس المأساة.."
وتغيب أشجار النخيل. حين تقطع السيارة طريقها إلى قلب الصحراء. ولكن الجبال لا تغيب. إنها تقف. كالمارد. كبيرة. مخيفة سوداء.. بعد أن غابت عنها الشمس. كأنها تذكرنا.. أنها موجودة فعلا. وإن في داخلها ذلك العالم الغريب المجهول. ومما يزيد من رهبتها يا صديقي سكون الصحراء. هناك في الشمال الجبال والضوء. والموت. والسيل.. وهنا. الرمال. والسكون. عالمان مختلفان. يؤدي الثاني إلى الأول.. ويهرب الإنسان من الأول عن طريق الثاني. الصحراء هي الطريق يا صديقي.. إلى الجحيم.. ومن الجحيم.

(13)

وأخيرا. ها أنذا في " عدن " أتراني حصلت على حياة جديدة؟ كلا يا صديقي. فالأشهر التي قضيتها في القرية قد غيرت من نظرتي الآن؟ ولا أدري كيف حدث ذلك.
الحياة في عدن فقدت جمالها. وفقدت سحرها. لقد أصبحت الآن ميتة. أخي " سيف" كنت أحب أن أراه هنا ولكني وصلت متأخرا. فقد فصل من عمله. بسبب إهماله. وبسبب الإضرابات. ولم يجد بدا من أن يغادر " عدن " فسافر إلى " جدة " لعله يجد هناك حظا أسعد. ويبتعد عن " فاطمة " بعد أن انهكته. وقذفت به بعيدا وها هي ذي أصبحت الآن لي. ولكن احتقرها. وأكرهها. فإن الجمال الذي كانت تمتاز به كان فقط منذ سنوات.. حين كان الصراع بيني وبين أخي. كنت أريد امتلاكها لأنني لم أكن أريد لكبريائي أن تنهار. ولكني هزمت وانتصر أخي. وأنهار كبريائي. وأصبحت فاطمة مجرد امرأة عادية. بل أقل من عادية الآن. ولكني لا أنسى مطلقا أنها كانت امرأة ممتعة. وأنني وجدت معها المتعة.. أكثر مما وجدتها مع غيرها من النساء. ولكن القرية. القرية يا صديقي غيرتني و " فتاة الجبل السمراء " حطمت كل مقاييس المتعة التي كنت أمتلكها.. ففقدت بذلك أشياء كثيرة.. لا أظنني أستطيع تعويضها.
عدت إلى العمل.. وحاولت أن أدفن فيه كل طاقتي. لأنني أصبحت فجأة أشعر بمسئوليتي أمام العائلة.. لذلك قررت أن أنقص من مصروفي بقدر الإمكان لا سينمات ولا حانة ولا نساء. العمل. والعمل وحده.. ففيه أجد السلوى. وأدفن طاقاتي.
ولكن أتظن " الصنعاني " الذي استقبلني استقبالا عنيفا يتركني خاصة أنه بدون عمل. أنه يعزمني. كل يوم. بل أنه يعتمد أن يدفع كل شيء. ولكني أقفل الباب في وجهه فلا أترك له مجالا. سألني عن محمد مقبل وماذا يعمل في القرية وسألني عن أحوال القرية.. وحكيت له كل شيء وأنا متأثر. لكنه ابتسم. وهز رأسه.. وسكت. كأن الأمر لا يعنيه وحاولت أن أثيره.. بسردي الأعمال التي يقوم بها " محمد مقبل " فيهز كتفيه ويسكت. وفشلت ولم أجد إلا أن أصب عليه شتائمي.
أن سكان مقهى " الحاج علي " أصبحوا كلهم تقريبا بدون عمل. فقد فصلوا وتوقفت الأعمال في كثير من الشركات. وأسمع بعض الحكايات التي قام بها العمال.. ولكنك تعرف أن هؤلاء العمال ليس لديهم أي تنظيم حقيقي. يستطيع أن يقودهم.. ويحقق لهم أي انتصار. فذهب الكثيرون.. ضحايا.. للاضرابات.

(14)
كان عملي بالأمس شاقا. وحين عد إلي المقهى لا ستريح وجدت "الصنعاني" متكئاً فوق سريره.. يلوك الورقات الأخيرة من " القات " الذي أمامه. وينفخ من المداعه الصغيرة.. كان الظلام يغمر الغرفة كلها.. حتى إنني لم أستطع أن أرى السرر الخمسة الموجودة في الغرفة. ولكن لهب نار المداعة كان يلمع ثم يخمد وبدا لي الصنعاني في تلك اللحظة شخصا محاطا بالغموض. والأسرار. وفعلا فإن الصنعاني في كل حياته وفي كل تصرفاته شيء مغلق.. لا أحد يعلم ما في داخله. فهو رغم جلوسه في هذه القوة مدة تقرب من سنوات إلا أن نزلاء المقهى لا يعرفون عنه شيئاً. حتى أن البعض يشكون أنه من صنعاء.
ولم ألتفت له بل مضيت إلى سريري وارتميت عليه وأغمضت عيني. وبدأت الصور الكثيرة تتلاعب أمامي فلم أميز منها شيئا. وكان العرق يتصبب مني بغزارة. الغرفة خانقة. ويزيد من ذلك دخان المداعة الذي ينفخه الصنعاني. وتقلبت فوق سريري.. وشعرت بالضيق فانتفضت من نومي. وجعلت أنظر للغرفة من جديد. كانت السرر الثلاثة فارغة.. سرير أخي. وسرير محمد مقبل. وبقي سريري وسرير الصنعاني يعانيان يسعل قطع استمرارها ونظرت إليه. كانت عيناه الضيقتان تلمعان وسط الظلام.. وسقط شعاع ضعيف من النور أتى من الغرفة المجاورة على وجهه فرأيت لأول مرة التجاعيد مرسومة بوضوح على جبهته.. والشعر الأبيض بدأ يغزو فوديه. وشعر لحيته لم يعرف الحلاقة منذ أسابيع فبدأ كأشواك حادة.. أما أنفه فما زال يرسم في وجه الصنعاني معنى الغموض والحقد في الوقت نفسه. وبدت صور مخيفة تدور في داخلي.. من هو هذا الرجل؟؟ ما هي حقيقته؟ لماذا يحقد على الآخرين؟؟ بل لماذا يحقد حتى على نفسه؟؟ ما هو ماضيه؟.. وكانت الإجابات غامضة كالأسئلة نفسها.. بعينيه الضيقيتين وفتح فاه بكسل فتصورته كفأر مطعم. مخيف. وسمعت المداعة " تقرقر" والدخان يخرج من فمه وأنفه في تدفق. فيغطي كل شيء في وجهه.. وعدت إلى التمدد فوق سريري وحاولت أن أغطي وجهي.. وأنام.. ولكني لم أستطع.. فسمعت صوته يأتيني بهدوء قائلاً:
فيما تفكر؟-....
-هل تحس بالتعب؟
-نعم.
-لعله الضيق؟
-كلا..
-إذن فيم تفكر؟
رفعت رأسي قليلا ونظرت إليه..
-أفكر فيك.
هز رأسه وقطف رأس عود قات أخضر..
-هل تريدني أن أساعدك؟؟
-نعم. وأردفت كم عمرك؟
حك رأسه كأنه يفكر.. وأجاب.
-لعله أربعين..أو أقل قليلا.. أو أكثر.
-من أين أتيت؟؟
-لا أدري.
-أنني أسألك من أين أتيت؟؟
-وأنا قد أجبتك لا أدري..
-إذن أنت لا تريد مساعدتي..
-أنا لا أساعدك في تفاهات.
وأغمضت عيني ونمت..

(15)
كان الوقت ليلا حين تركت سريري.. وكان الصنعاني قد ترك المكان.. وأحسست أن التعب قد زال. فأخذت حماما باردا وخرجت إلى الشارع. كان الجو ما زال حارا.. ورأيت الناس يمضون بسرعة. وكانت السيارات تنطلق بسرعة أكثر. وأمام دار السينما القريبة رأيت الناس يتزاحمون للدخول.. وأصوات الباعة تعلو على أصوات المتزاحمين. وفي الناحية الأخرى من الشارع كانت أصوات ترتفع منادية على " الباصات " " شيخ شيخ " أركب يا حاج " معلا معلا ".. " تواهي". معلا " تواهي ".. فتختلط الأصوات بعضها ببعض.. فيخرج شيء ممزوج.. شيء غريب تفوح منه رائحة العرق.. والتعب.. يهدأ قليلا ثم يرسل صياحه من جديد..
ويمضي بي الشارع حتى الميدان.. وفي " مقهى زكو " جلست لأتناول كوبا من الشاي.
كان الميدان أيضا مزدحما.. تفوح رائحة الأطعمة من أحد المطاعم القريبة من المقهى.. وصوت بائع الحلوى يرتفع وينخفض مرة أخرى مناديا على حلاوته. ومن بعيد يرتفع أصوات المنادين لسيارة الأجرة .. تاكسي. تاكسي.. هيا أركب.. نفر واحد.. هيا المعلا.. التواهي بشلن.. بنصف شلن المعلا.. الشيخ. الشيخ.. وتختلط الأصوات التي تأتي من الخارج بالأصوات الكثيرة التي تحدث حولي.. فأغيب في دوامة.. فلا أشعر بشيء .. سوى.. الدوار.. ودقات عنيفة في الرأس. فأترك المقهى قبل أن يأتي ما طلبته. أين أذهب؟ الفراغ كله.. يحوطني.. فلا أجد غير " شارع السوق " .. " غدا الأحد.. واليوم أستطيع أن أسهر حتى الصباح". فألتفت مسرورا حين توصلت إلى هذه النتيجة. ولكني أجد نفسي فجأة وحيدا.. في الشارع والسيارات والناس.. والأصوات.. كلها سريعة.. حتى أنا.. كنت أجري كالآخرين.. ووجدت نفسي فجأة أمام " حافة اليهودي " ودفعتني قدماي إلى الداخل.. وهناك وجدت الصنعاني فأبتسم وهو يراني وأشار إلي أن أجلس معه وحين جلست اتسعت ابتسامته وقال:
-وأخيراً.. تغلبت على نفسك.
-كلا.. فالقلق هو الذي قادني إلى هنا.. لم أكن أدري أين أسير.. فوجدت نفسي هنا.
-أن ذلك خير لك..
وهز رأسه في انتصار.
-نعم خير لك أن تعود إلى ما كنت عليه. لقد كنت فقد الأمل في أن نعيد ماضينا ولكني الآن عرفت.. أنك لم تتغير.. وأن ما حدث لك في القرية ليس سوى مجرد انفعال.. مات حين واجهت الواقع.
-لا تحاول يا عزيزي أن تدفعني فإنني حقا أشعر أن هناك تغيرا.. فساعدني في أن أتغير.. لا على أن استمر في الماضي التافه.. وضربت المائدة أمامي بقوة جعلت أقداح الخمر تهتز بقوة.. ونظر الصنعاني حوله.. ثم قال:
-لا تجعل الناس يظنون أنك سكران.
-وماذا أعمل إذن هنا.. إذا لم أسكر. أنني أريد أن أنسى. أفهمت. أنسى نفسي. وعالمي. وأنساك أيضا. من أنت.. من أين أتيت.. ما أسمك.. ومن أنا. ومن أين أتيت وما أسمي؟ كل هذا أريد أن أنساه.
-أشرب إذن لعل الخمرة تنسيك.. ولكن تذكر إنها لن تنسيك إلا مؤقتا.
وشربنا.. أحسست أن طعمها كان كريها.. وكنت كلما شربت كأسا. أشعر بالغثيان.. واختلطت الأصوات التي تنبعث من داخل الحانة مع أصوات أبواق السيارات المنطلقة.. في الخارج. وكان الجو خانقا.. والدخان ينبعث من لفافات السجائر فيزداد جو الحانة اختناقا. ويتردد صوت صغير حبيب يزداد وضوحا كل لحظة.. ومع كل كأس.. هو صوت محمد مقبل يقول: " إننا كلما مارسنا الحياة اليمنية أدركنا عمق المأساة. ولكن كلما تهربنا زدنا من المأساة وعمقنا جذورها. ووهبنا لها حياة أخرى. لكي نقضي على المأساة .. يجب أن نعرف أنفسنا".
وحاولت أن أعرف هل أجد حقيقتي في هذه الحانة ووسط هؤلاء الناس. والدخان.. والكؤوس.. وسمعت صوت الصنعاني وقد بدأ يسكر: لماذا تحاول أن تعود كئيباً.. فتفقد لذة الحياة.. تمتع يا بني.. واضحك. وإلا فإن باب الحانة مفتوح فأخرج إن أردت.. وأجبته وأنا أحاول أن أتمالك نفسي..
-لماذا لا تفكر.. إن استمرار حياتنا بدون هدف.. لا جدوى منه.
-من قال أنه ليس لحياتك هدف.. أنك تعمل لتأكل وترسل نقودا لأهلك.. ثم تتمتع إن شئت.
-هل هذا هو " هدف " مشرف أن أعمل لأكل. وأعمل لأطعم الآخرين. إن المشكلة ليست بسيطة ولكنها تبدو لك أنت كذلك.. لأنك لا تعرف المشاكل ولا تعرف في حياتك سوى الأكل والنوم والسكر.
وقهقه كعادته.. وطلب مني سيجارة.. ثم مضى يدخن سيجارته دون أن ينظر إلي..
-أنا لا أعرف الحياة. أنك تظلمني يا بني.. أن حياتي ليس فيها أي تشوق.. لأنها مثل حياة كل يمني ولكني أكرهها ونظر إلي هذه المرة بحقد.. وتفتحت عيناه الصغيرتان. نعم يا بني أن الإنسان حين يكره شيئا ما كراهية مطلقة.. يكره نفسه أيضا. حاولت أن انتقم لنفسي. من الذين صنعوا مأساتنا كلنا.. ولكني لم استطع إلا أن انتقم من نفسي لأني فكرت في أن أعمل وحدي.. وانتقم وحدي.. ليس هنا قوة " .. وضرب المائدة بيديه " سوى قوة الجوع وأنا وأنت والآخرين ومن المؤسف أن أدرك ذلك مؤخرا.. و.. وقاطعته قبل أن يتم.. ولكن ممن تنتقم . وسعل بقوة.. ثم التهم الكأس الذي أمامه:
-أنها قصة طويلة يا بني.. حتى أننا من كثرة الملل نسيت معظمها.. ونسيت من هذا الذي كان ينبغي لي أن انتقم منه..
وسكت وحاولت أن أجره إلى الحديث بدون فائدة فاستمر يفرغ الكؤوس في بطنه.. ولم أود سوى أن أسحبه من الحانة ونخرج..
لفحتنا أنسام الصيف الباردة.. فسرت في جسدينا انتقاضة منعشة.. كان الليل هادئا وأسراب السيارات بدأت تقل.. كذلك خلت الشوارع من الناس. وكان القمر يرسل في تلك الليلة أشعة باهتة. حزينة. وسمعنا من بعيد أصوات الموج وهي تصطدم بصخور الشاطئ وسحرني الهدوء والنسيم الذي جعلني انتعش وأطرد أثر الكؤوس القليلة التي شربتها.. كما أنها أطلقت لسان " الصنعاني " حالما أطللنا على الشاطئ.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
06-11-2012, 02:31 AM #4 الصورة الرمزية د. مختار محرم د. مختار محرم  د. مختار محرم غير متواجد حالياً
المؤسس

تاريخ التسجيل
Aug 2011
المشاركات
1,964
معدل تقييم المستوى
10
افتراضي



بدأت قصتي يا بني منذ عشرة أعوام. كنت في مدينة " صنعاء " مع زوجة أحبها وطفلة. رسمت لها مستقبلها بخطوط ذهبية لأنها الوحيدة التي رزقت بها.. لحدوث حادث لزوجتي منعها عن أن تحمل مرة أخرى. وكانت أحلامي كلها.. تدفئني وتدفعني للعمل من أجل تحقيقها. كنت أحلم بأن أصبح إنساناً يستطيع أن يعيش في هدوء في منزل فخم ذي حديقة وأن يصبح في مدينتنا مدرسة للبنات فأدخل ابنتي فيها. وأعلمها ثم أرسلها إلى الخارج لكي تستطيع أن تتخرج دكتورة.. أو أي شيء يجعلها تمارس حياتها حرة وتعول نفسها. وكنت أتصور حياة مدينتنا وقد أخذت بالتطور وأصبحت " عاصمة اليمن السعيدة" حقا.. وأن تستعيد تاريخها القديم. وأتصور دكاننا ذلك الصغير الذي كنت أملكه في أحد أحياء صنعاء القديمة قد أتسع وأصبح أكبر دكان في المدينة ويصبح ذلك الحي القديم حيا جديدا..

إلا أن الصور التي رسمتها لم أعد أذكر منها شيئا.. إلا أني كنت أعمل بشرف.. لأني أردت أن أقيم أحلامي تلك على أساس واحد هو الشرف. وكنت لا أهتم بشيء.. إلا أن تتقدم مدينتنا لكي تتقدم تجارتي الصغيرة فتكبر. أي لم أكن أهتم بالسياسة. أو غيرها. لأن الشيء الذي آمنت به هو أن كل إنسان ما دام يعمل بشرف.. فستصبح مدينته وقريته جنة.

ومرت الأحداث الكبيرة التي هزت العالم.. ولكنها لم تهز مدينتنا كثيرا. ولم أشعر أنا بوجودها. ومارست حياتي بنفس الطريقة التي مارستها من قبل.. بدون تغيير. من منزلي المتواضع الصغير.. إلى دكاني الصغير أيضا. ولكن بين الاثنين كانت تقع سعادتي.. حبي لعملي وحبي لزوجتي.. ثم حبي للعالم كله من خلال ذلك.

ومضت سنتان ثم بدأت اهتز. إلا أن اهتزازي كان ضعيفا، ففي ذات يوم سمعت أن " الأمام " قد قتل ولم أبك.. ولم أضحك. لأن ذهابه. أو وجوده لم يكن يهمني كثيرا. وتوالت بعدها الأحداث.. وكل ما كنت أريده هو أن تعود الحياة.. وتتطور حتى أحقق أحلامي. وكنت في لحظات أراجع نفسي وأتساءل " هل حقا أنني في الطريق الصحيح المؤدي إلى سعادتي التي أحلم بها ". وأجد أن كل الطريق المؤدية إليها معلقة. وأنني واقف.. لا أسير. وسأستمر واقفا.. إن لم أغير نظرتي.. وخطتي. وكنت كلما حاولت ذلك.. أتراجع لأني لا أستطيع أن أغير حياتي. فاستسلم للواقع.. مع تمسكي بأحلامي وشعرت بأن هناك نورا صغيرا قد يضيء حياتي لو استمر وذلك النور هو الأحداث التي وقعت بعد مقتل الأمام.. لأنها كانت ستدفعني دفعا إلى تغيير موقف وبالتالي إلى وصولي لأحلامي.

وسعل " الصنعاني " في تلك اللحظة. ونظر حوله.. كأنه قد خرج عن عالمنا هذا الذي حوله ليقودني إلى عالمه القديم. كان القمر في السماء يبدد السحب.. ليرسل إلينا أشعته اللامعة وكانت الأشعة تنعكس على صفحات المياه التي أمامنا.. فتضيء كل ما حولنا. كانت هناك سيارات قليلة واقفة كل واحدة بعيدة عن الأخرى. وكنا نسمع نغمات موسيقى أو ضحكات امرأة نشوى.. أو همسات حبيبين. وكان البحر أحيانا يلتهم كل تلك الأصوات داخل أمواجه التي يرسلها بقوة أحيانا وبضعف أحيانا أخرى. وفي كلا الحالتين كانت " زبدة الماء " تمتد على ساحة كبيرة فوق الرمال الصفراء النائمة.

واستمر الصنعاني.. بعد أن تزود بنشاط جديد مما يحيطه.. " وتطورت الأحداث إلى حرب أهلية. وشعرت لأول مرة بالخوف على أحلامي الصغيرة وقلت لنفسي لعل كل شيء ينتهي دون أن يمسك. وكنت ارتجف كلما أحسست أن الخطر قريب من ابنتي وزوجتي ".

وهنا كان صوت الصنعاني رقيقا. فيه حب. وفيه خوف..

" وذات يوم رأيت المعركة على أبواب صنعاء.. إذن فالوداع لأحلامك.. هكذا قلت لنفسي.. وحين عدت إلى المنزل رأيت زوجتي.. وفي عينيها نول من التساؤل والخوف.. وكذلك كانت ابنتي الصغيرة متشبثة بملابس أمها تطلب الحماية.. كلما سمعت أصوات الرصاص تتصاعد في أرجاء المدينة. وشددت على يد زوجتي.. وهمست لها في حب. " أنهم لن يمسونا لأننا لم نعمل لهم أي شيء "..

-لكني خائفة..

-ليس هنا مبرر.. قلت لك أنهم لن يمسونا.. أنهم أسرة واحدة يتقاتلون على كرسي فيها.. فما دخلنا نحن.

-ولكنهم قتلوا " الإمام ".

-لسنا نحن الذين قتلناه..

وحاولت بشتى الوسائل أن أهدئ من روعها.. وأفلحت بعد إصرار بأنهم لن يمسونا. وصدقت أنا نفسي هذا الوهم. وقلت لنفسي.. نعم لن يضرونا.. لأننا لم نفعل لهم شيئا. وجعلت أردد ذلك حتى اقتنعت. واقتربت المعركة. يوما بعد يوم.. وأنا ما زلت أحلم وأكرر لنفسي.. أنهم. لن يمسونا. فلينتصر من يريد منهم ولكن ذلك كله لن يقنعني.. خاصة حين رأيت أهالي " صنعاء " يدافعون عن أنفسهم.. وشعرت أن في صنعاء روحا جديدة خلقت من خلال المقاومة.. وإلى ذلك اليوم لم أكن أعرف من هو الذي على حق.. الذي قتل. أم الذين قتلوه. ولكني أيضاً لم أستطع أن أربط بين هؤلاء وبين سكان " صنعاء ".. واشتعلت المدينة ذات يوم وابتدأت تلتهم منازلها النيران وذهبت أجري لأرى ما حل بدكاني. وهناك كانت البقايا تتحدث عن الوحشية.. ورأيت الجيش الغازي.. مجرد أناس لا يعرفون سوى النهب كان شعارهم قائدهم " صنعاء مدينة مفتوحة "..

وبدأ الألم يزداد في صوت الصنعاني.. ورأيت الدموع في عينيه.. كان صوته واضحا قويا.. وكان يتحدث وهو يمد يديه بقوة ويضرب بها الهواء..

وكان السكون مخيما على الشاطئ .. ومن بعيد كانت أنوار سيارة تتدفق نحو البحر.. فبدأ البحر تحت الضوء شعلة حمراء.. باهتة. وتخيلت عندئذ مدينة صنعاء.. وهي تعاني الألم. وتابع حديثه.

" واندفعت لأنقذ ما أستطيع من بقايا أحلامي. ونسيت كل شيء حولي. الرصاص. والهمج والنار. وكنت أجري هنا وهناك ألعن كل ما قابلته. وكل من قابلته لا عني بالنهب. كانت صنعاء حقا مدينة مفتوحة للغجر.. للهمج وشعرت بالتعب. وشعرت أن لي بيتا. وعائلة. وطفلة جميلة انهار مستقبلها بانهيار ما كنت أملكه من مال. وأحسست ببرودة تسري في داخلي. حين تصورت أنه قد يحدث لمنزلي ما حدث لدكاني.. وكنت عندئذ بعيدا عن المنزل. فأطلقت ساقي للريح. دون أن أعبأ بمن أقابلهم..

كانت صنعاء جميلة يا بني.. والجبال تحيط بها من كل جانب والأشجار الخضراء ترف في شوارعها ومنازلها. والشمس ترسل أشعتها من خلف السحب المجتمعة فوق سماء المدينة فتخترق الأشعة تلك السحب.. وتلقي أضواء هادئة على الأشجار.. والطرقات التي كانت موحلة.. حمراء من الطين والدم. لو لم تكن صنعاء مدينة ممطرة.. لانمحت من تلك الأيام من الوجود. ولاحترق كل سكانها. ووصلت يا بني إلى المنزل.. وقد هدني التعب.. وهناك تجمدت قدمي. كان المنزل مهدما. محطما. كان هناك عدوانا.. قد حدث. ودخلت المنزل. بان كل شيء في الداخل. مبعثرا. ممزقا.. السرير والملابس وبحثت عن زوجتي وطفلتي..

وغطى الصنعاني وجهه.. وتساقطت الدموع من عينيه. وقام من مجلسه بجانبي فوق الصخرة. وسار إلى الشاطئ الرملي الممتد إلا مالا نهاية.. وجعل ينظر إلى الأفق.. وكانت نسمات البحر الباردة تهب علينا..

أصبت بصدمة عنيفة وأنا أرى زوجتي وطفلتي.. وقد مزق جسميهما الرصاص والدماء تتدفق حارة.. ثائرة. ورأيت في نظريتهما.. الخوف. الغضب. كانت الطفلة متمسكة بأمها.. لا تريد فكاكا والأم متشبتة بها أيضا. وكانت ملابس الأم ممزقة.. كأن عدوانا أبشع قد وقع عليها. آه يا إلهي. هل تصل وحشية الإنسان إلى هذه الدرجة. أنني لا أستطيع مجرد أن أستعيد تلك الصورة. لأني كنت في حالة غيبوبة كاملة.. لا أميز ما هو حادث أمامي. كنت في حلم كبير.. فلم أستطع أن أمزق الواقع. لأنه كان بشعا. رهيبا. نعم رهيبا يا بني أن تنظر إلى أحب مخلوقات لديك.. مزقا. دموية.. يشع من عينيها الرعب القاتل.. وأنت لا تستطيع إزاءها ألا أن تعطي عينيك وتهرب.

وهز رأسه بحزن. وانفعال.

وخرجت ابحث عن انتقام. لقد تحطم القيد الذي كان يقيدني. وأصبحت طليقا. ولكن بعد أن فقدت كل شيء.. ولا أتصور من أين أتتني تلك القوة الرهيبة وأنا أصارع أول إنسان قابلته لانتزع منه أداة الموت. بندقيته.. وبدأت أطلق النار على كل من أراء دون تمييز. كنت أريد أن أقتل وأقتل.. لم أكن انظر إلى صنعاء وهي تتألم. لأنني كنت أتألم أشد منها.. ولم أنظر إلى الجمال.. والروعة.. ولم تعد أحلامي ملكا لي. لأنها كلها ماتت. بمجرد أن أدركت الخرافة الكبيرة التي كنت أعيش فيها..

وعاد إلى الصخرة مرة أخرى. ثم سحبني. ومضينا. نخط بأقدامنا على رمال الشاطئ.. دون هدف. والبحر يزمجر غاضبا فترتفع المياه إلى تحت أقدامنا.. بينما يتصارع الموج والصخر.. كل يريد أن يقتل الآخر.. واحتجت أشعة القمر.. وأصبح الشاطئ مظلما مخيفاً.. وسكتت الأصوات حولنا.. ولم يبق إلا صراخ الصراع.. بين الأمواج والصخور.

وتركت صنعاء.. بعد أن سقطت بين يد " الإمام الجديد " بعد أن تحطم كل شيء فيها.. حتى الإنسان. نعم حتى الإنسان ذلك الجبار الذي صنع المعجزات وما زال يصنعها تحطم تلك الأيام في مدينتنا .. وأصبح مجرد حيوان. ينهش كل ما يراه أمامه. دون تمييز.. دون خوف. لأن كل المعاني والقيم كانت قد تحطمت.

خرجت من صنعاء يا بني. وقد رسمت خطة. أن أغادر هذه الأرض " وأشار بيده مبينا " وتلك هي الغلطة الأولى التي ارتكبتها.. مغادرتي لتلك الأرض " وأشار إلى الشمال " لأنني حسبت أنني استطيع أن انتقم حين أصل هنا..

ومضت بي الحياة.. كنت اعمل من قبل لكي انتقم. أما الآن.. فقد أنستني الحياة كل شيء. وأصبح لزاما على أن أنسى مأساتي.. لأنهابسيطة بالنسبة للآخرين. ولكن يا بني يجب أن نعترف. أن كل إنسان لا يستطيع أن ينتقم لوحده. ولكننا كلنا مجتمعين مع مآسينا.. نستطيع أن ننتقم".

(16)

لم أكتب لك منذ طويلة. لأن حياتي ما زالت فارغة.. إلا إذا قلنا أن الصداقة التي ولدت من جديد بيني وبين الصنعاني أصبحت تملأ بعض هذا الفراغ. لقد أدركت فجأة أن الصنعاني إنسان.. وإنسان عميق أيضا. أنه يتحدث إلي إلا دون تردد.. لقد أصبح كتابا مفتوحا.. وكتابا ضخما. أصبحنا نقضي فترات كثيرة معا.. خاصة بعد أن عاد إلى العمل.. وأصبح يشغل وقته.

وجدت يا صديقي. كتبك التي تركتها. أنني أشكرك على ذلك. لأن هذه الكتب فتحت أمامي عالما كنت أجهله. عالما أصبحت أجد فيه الكثير من الإجابات التي أريدها.. وأصبحت أقضي معظم أوقاتي معها.. ولكن بالرغم من ذلك أشعر بفراغ.. لا أدري كيف أملأه. أنني أريد عملا لارتزق منه.. كلا فلدي هذا العمل. بل أصبحت أكرهه. ولكني أريد عملا آخر يطمئن نفسي وروحي وكياني كله.. عملا أشعر فيه بأنني إنسان كبير.. يفكر.. إنسان يتضامن مع الجميع. الحب.. الحب هو ما أريده.. حب الإنسان لأخيه الإنسان.. والعمل. العمل من أجل بناء ما تعفن من أنفسنا. ومن أرضنا. قد تقول أن العمل هنا متوفر. كلا يا صديقي.. ليس هنا من عمل.. طبيعي أن أؤمن أن بلادنا واحدة. لا يفرقها استعمار.. أو استبداد. وأن العمل من أجل القضاء على واحد منهما.. هو بالتالي العمل من أجل القضاء على الآخر. ولكن لا أجد هنا عملا وطنيا صحيحا. كل عمل هنا.. كما يقول الصنعاني.. مجرد لعب أطفال.. لا يجدون عملا جديا.

هنا الناس المستعدون للعمل.. ولكن ليس هنا القيادة التي تقرر. أنني أحيانا أكفر بالعمل. وأحيانا تسيطر على فرديتي ولكني تذكرت أحداث القرية.. وقصص الملايين من أبناء وطننا المشردين تحت كل سماء.. أجد أن من الخيانة ألا أعمل. يقول " الصنعاني " دائما.. إننا نهرب.. تلك هي الحقيقة. لأننا نجد فراغا قاتلا في داخلنا.. أن الزعماء.. أو الذين يقولون أنهم زعماءهم أيضا.. مجرد ناس شعروا بالفراغ في داخلهم.. فأرادوا.. بأن يظهروا. ونحن لا نمانع من ظهورهم. ولكن لا على أساس العقد التي تعيش في داخلهم.. ولا على مركب النقص الذي يشعرون به. إننا يا بني نريد عملا حقيقيا.. جماعيا.. لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع أن نأخذ بها حقنا.."

ولكن يا صديقي ابن زعماؤنا..؟؟ أين من يقود هذه الجماهير.. إلى طريق الحرية. أن الأسئلة ترتسم على طريقنا فلا نجد إجابة.. وأنتم.. يا من تركتم بلادكم. وجماهيركم ما هي الأعمال التي علمتموها. غير الهروب.. نعم الهروب من واقعكم.

لقد رأيت بالأمس يا صديقي نزيلا جديدا لمقهانا وغرفتنا. كنت قد عدت من العمل. ورأيت سريرك وقد احتله رجل لم أراه من قبل.. طويلا.. أسمر اللون لفحته الشمس. أو اللهب. ومد يدا طويلة وهو يصافحني. ويقدم نفسه أن أسمه علي.. " علي الزغير " كان بحارا فوق إحدى بواخر شركة إنجليزية.. غاب عن بلاده مدة عشر سنوات.. أي منذ كان في العشرين وعمل في " موقد " الباخرة.. التي أعطته.. بشرته السمراء الجميلة.

وأخبرني أنه قد زار خلال رحلته معظم بلاد العالم.. ولكن الذي عرفته منه. أنه لا يعرف من مشاكلنا الوطنية شيئا.. بل ابتسم حين قال له الصنعاني.

-هلا كنتم مجموعة فوق الباخرة؟

-كلا.. فأنا لا أحب اليمنيين..

وسألته.. لماذا؟؟

وأجابني بقوله:

-أن اليمني.. لا تستطيع أن تعيش معه. لأنه سيجعل حياتكم كلها جحيما.. وهو سيخلق لك المشاكل من لا شيء. ونظر الصنعاني نحوي ثم هز رأسه وقال..

-هؤلاء هم من يؤخرون قضيتنا الوطنية.. أنهم لا يعرفون عن بلادهم شيئا.. يهربون.. ثم يأتون ليقولوا.. إنهم بكل بساطة.. لا يحبون اليمنيين.

وثار الصنعاني-

أنتم أنتم.. وسكت.. لماذا عدت إذن؟ وسمع صاحب " المقهى الحاج علي " فأقبل نحو الصنعاني قائلا-

-وأنت ما هي الأعمال التي قمت بها لوطنك..

فأجبته- إنه على الأقل يشعر بأن عليه أن يعمل

-ليس بالشعور وحده نستطيع أن نخلص بلادنا.. فأنا منذ عشرين عاما.. امتلك هذه المقهى.. ومرت على الوجوه الكثيرة.. كلها كانت تتحدث أحيانا.. وخاصة عندما يأكلون " القات " يتحدثون يا بني عن " الوطنية " وعن بلادهم.. ولكني لم أر واحدا منهم يحاول أن يعمل فعلا عملا إيجابيا. لتحطيم الجمود الذي يسيطر على بلاده.. نعم " يا نعمان ".. ليس.. شعورنا بأن بلادنا مظلومة يكفي.... أجابه الصنعاني

-إن الإنسان.. وخاصة من ذهبوا إلى الخارج يجيدون هناك فرصاً كثيرة لكي يعملوا ولكن أنظر إلى هذا " وأشار إلى البحار " أنه عاد دون أن يفقه شيئا.. أن ذلك يظهر من أحاديثه.. ومن تقاسيم وجهه.

وابتسم البحار وقال.

-لا تظلمني يا صديقي.. فأنا لا أعرف القراءة والكتابة.. حتى أتابع الحركة.

(17)

أصبح " البحار " رفيقا لنا.. وأصبحنا تقضي أمسياتنا نتحدث عن ذكرياتنا.. ونقرأ فصولا من كتبك. ونناقش قضايا وطننا السياسية. كما أننا نتحدث عن أنفسنا.. قص علينا البحار قصة حياته.. أنها عادية في نظرنا لأنها كحياتي وحياتك. وحياة كل يمني. ولكنها المأساة.. في نظر الآخرين.

" تركت قريتي حين كنت في العاشرة.. إلى عدن. وعشت فيها أعمل في دكان يملكه أحد أصدقاء والدي. وهو من قريتنا. كنت أعمل فيه منذ الخامسة صباحاً حتى الثانية عشر مساء. أنني ما زلت ألاحظ أن هذا ما زال موجودا لكثيرين من أطفال بلادنا الآن. وكنت لا أجد الراحة سوى في أوقات أكل القات. كانت الحياة في عدن قبل عشرين عاما مملة. لذلك قررت أن أترك عملي بالدكان.. وعدت إلى القرية. ولكن حياة القرية لم تناسبني. لأنني كنت قد تأثرت كثيرا بالمدينة. فالإنسان عندما يجد الحضارة.. لا يحب مطلقا أن يعود إلى البدائية. فهربت من القرية.. وكان هدفي أن أتعلم هذه المرة.. لا أن أعمل. فاتخذت الطريق إلى الشمال.. " إلى زبيد ". ثلاثة شهور مشيا على الأقدام أحيانا. أو التعلق على سيارة عابرة.. عبر الجبال.. جبال الشمال. آه ما أروعها.. حيث ينام الثلج على القمم. تترقرق الجدران ملتوية كالثعبان ثم الغابات الخضراء. والأراضي المنبسطة اللانهائية كلها يا أصدقاء سمراء. غنية. حبيبة.. ثم الصحراء تترامى في النهاية في أحضان البحر ولكن يد الإنسان الخلاقة.. شقت في تلك الصحراء. واحات خضراء. كنت أجد فيها المأوى والمأكل. لأن الأرض كريمة في بلادنا الشمالية. وأهلها أكرم.. أنني أحاول أن أستعيد صورا مرت عليها سنوات.. فأجد لوحات منقوشة لا تنمحي. كرم اليمني لأخيه رغم المأساة التي يعيشها. هنا أجد فرقا بين الرجل والمرأة. لأن كليهما يعمل. فالأرض يا أصدقاء تحتاج إلى أيد متعاونة متحابة. تلك هي أيدي الرجل والمرأة وسألته موضحا:

الشمال. وأرض الشمال. سماء الشمال. كلها حبيبة إلى القلب.."

ويتنهد " البحار " وأرى دموعا تكاد تخرج من عينيه. هي دموع الذكرى والحب الذي كان يحمله هذا الإنسان للشمال..".

" لكن.. نعم.. لكن يا أصدقاء هناك ترقد المأساة بثوبها الأسود الكالح. الإنسان موجود هناك.. ولكنه أي إنسان أنه ليس بإنسان القرن العشرين.. بل إنسان قرون مضت.. وطمرها النسيان. لكنها في بلادنا. لا تعرف النسيان. بل هي تحتوي هذا النسيان.. فتعيش لأنها تحالفت مع تماثيل صخرية آمنت بها.

كانت " زبيد " منارة للعلم منذ عرف اليمنيون العلم.. وظلت قرونا شعلتها. لكن حين أشرفت عليها.. كانت نائمة في وسط سهل ممتد.. مآذنها القديمة وبيوتها ذات البناء التاريخي.. ثم عشش من اللبن وعشش أخرى من مخلفات الماشية. وسعف النخيل. " وهناك " خارج أسوار المدينة.. تلك الأسوار التي صدت عن زبيد غارات المتوحشين.. وحفظت لها شعلة العلم. وهي الأسوار التي صدت عن المدينة.. تدفق شعاع العلم الحديث. خارج تلك الأسوار القديمة. الصلدة التي ما زالت تقاوم الزمن تقع " المقبرة ". ميدان واسع لا نهاية له. كأن أموات العالم كله متجمعون هناك.. ومن فوق ربوة عالية خارج " زبيد " ترى المكانين. زبيد داخل سورها.. والمقابر بشواهدها.. وقببها البيضاء. مدينتان.. للأحياء.. وللأموات. وأي إنسان لا يعرف زبيد.. لا يستطيع أن يميز بين المدينتين لأنهما متشابهتان.

داخل الأسوار.. ينام الناس.. ويأكلون. ويذهبون إلى مسجدها الكبير.. ليؤدونها بدون حماس.. ثم يعودون ليناموا. ولا تستطيع أن تحدد أين ينام الناس ففي كل مكان تراهم متمددين.. داخل الأسواق. ذات الشوارع الحجرية.. والدكاكين المبنية من حجارة متراكبة فوق بعضها بدون تماسك ومن سعف النخيل.. أو في المقاهي. حيث السرر الخشبية المربوطة بجبال بدلا من الكراسي.. وفي المساجد وداخل البيوت.. أو على أسطحها.. وفي داراتها في كل مكان ترى الناس عرايا إلا من مئزر أبيض إلى الركب.. وقلنسوة مصنوعة من " الألياف ".

والمدينة يا أصدقاء.. تخترق من أشعة الشمس وتحترق من الناس الذين لا يعملون.. وتحترق من الدعوات التي تتصاعد كل يوم إلى السماء.. حارة أحيانا وباردة أخرى. وخارج أسوار المدينة.. ترى الناس أيضا وسط شواهد المقابر.. منهم من يبكي. ومنهم من يذهب يبحث عن من يريد أن يستأجر ليقرأ " القرآن " على قبر. وفي الليل أو في النهار ينام الناس.. ويأكلون ويصلون فوق المقابر.. بل أن المقابر تشهد في فترات من السنة أعيادا.. يشترك فيها الجميع.. ويجدون فيها المأكل والمشرب. ثم في النهاية يصلون على روح من كان السبب في أحياء ذلك الحفل.

في كلا الجزئين من المدينة.. خارج الأسوار وداخلها.. تشهد حياة.. غريبة. ولولا وجود عدد من السيارات التي تمر بزبيد في طريقها من الحديدة إلى تعز وبالعكس لقلنا أنها مدينة تاريخية.. لا وجود لها.

وحين ينزل الإنسان من فوق ذلك التل الذي شاهد فيه المدينة لأول مرة.. بجزئيها.. يختلف المنظر. لأنه يرى كل شيء عندئذ عن قرب.

ودخلت المدينة واتجهت يا أصدقاء إلى المسجد حيث قيل أنه يوجد مكان لنا.. نحن الذين نطلب العلم.. وحيث نجد مكانا نأوي إليه. وأكلا. وشربا. وخطوات خطواتي الأولى نحو عالم النور.. العلم.

كان الوقت عصرا حين دخلت المدينة والشمس ترسل لهيبها الحار وشوارع المدينة تقريبا خالية.. بينما كانت المقاهي مكتظة بالناس يأكلون القات ويتحدثون عن كل شيء.. فيوصل إلى بيت كبير يشبه قلعة حربية تاريخية.. كل نوافذه مطلية باللون الأبيض.. وعلى بابه كان يقف " عكيفان " يحرسانه.. وأمام الدار كانت سيارة " جيب " صغيرة تنام بهدوء تحت ظل حظيرة كانت للحمير.. والبغال.

كانت أبواب الدكاكين مقفلة. وتحت ظلالها بنيانها كان أناس مهلهلو الملابس قذر والخلقة تفوح من أجسامهم رائحة نتنة، ينامون. وقد ارتسمت على شفاههم بسمات سعيدة.. لعلهم يحملون بحياة أفضل.. وهناك ظاهرة.. توجد بكل مدينة من مدن ساحلنا الذهبي الباكي " ساحل تهامة " فهناك يا أصدقاء تشارك المرأة الرجل كل شيء. حتى تشرده.

وفي صحن المسجد الكبير.. حيث سمعت قصص آلاف ممن كانوا ينامون. ويتعلمون.. في هذا الصحن. حكايات.. بسيطة كبلادنا.. عنيفة كبلادنا أيضا. ناس بسطاء.. تكبدوا كل شيء من أجل العلم.. ثم قادهم علمهم ذلك إلى غياهب السجون. هناك في حجة.. وفي صعدة وفي غيرها من السراديب السوداء المظلمة تحت أرض بلادنا. أنها مسكينة يا أصدقاء هذه الأرض. فهي تتحمل الآم الناس فوقها.. وتحمل الآمهم تحتها.. أنهم أحياء وأموات.. في كل جزء.

وغابت شمس ذلك اليوم. كانت دامية. وهي تخلف الأفق الرملي. يقولون هناك.. إنها تغوص في المياه لكي تغسل جراحها. كانت دماء الشمس تغمر الصحراء والمدينة.. والمقابر.. وكانت تتخلل مآذن المسجد.. وبيت " الحاكم " الذي يبدو كقلعة قديمة. وكانت دماء أخرى.. لكنها سوداء.. تغرق قلب المدينة. ماتت الشمس.. وماتت معها حركات الناس في المدينة.. ولكنك تسمع همسات صغيرة.. تتحول إلى أنين. كلها تأتي من خارج الأسوار.. لعلها الأموات تتحدث.. أو تبكي.

وهز " البحار " رأسه مرة أخرى.. وكانت عيناه تحملقان في أخشاب الباب.. والسقف.. وتعود تحملق فينا. كأنها تجد فيها مزيدا من الذكريات. وتمضي العينان تدوران.. ويدور معها عقل.. وذكريات البحار.

" وولد النهار من جديد. كان جديدا بالنسبة لي. ولكنه كان قديما.. وموغلا في القدم لسكان المدينتين. لا يهتمون لو طعلت الشمس. أو لم تطلع.. لأن حياتهم.. أصبحت يا أصدقاء فارغة. بلا هدف.. أكل ونوم ثم صلاة. وامتلأ المسجد بالناس. كانوا كلهم مثلي طلبة وقلت لأحدهم...:-

-إن الذين يتلقون العلم هنا كثيرون.. أليس كذلك؟؟ ونظر الذي سألته.. ثم هز رأسه.. قائلا: أنك غريب..

وهززت رأسي مجيبا.. فابتسم نحوي.. ووضع يده فوق كتفي.. وهو يقول..

-ستدرك ذلك كله تقريبا.. لا تتعجل.

ومضى وتركني في حيرة. ما لهؤلاء الناس ألا يريدون كلاما. أم أنهم فقدوا القدرة عليه.. وجرفني تيار الناس.. وتساءلت.. " لو كان الناس الذين بتعلمون بهذا العدد لما كانت بلادنا هكذا. على الأقل هناك أناس محطمون.. أو يثورون على واقعهم" . ثم أعود وأتساءل: إذن ماذا يعمل هؤلاء كلهم.؟ وتقودني قدمي إلى مكان تفوح منه روائح.. الأكل. ثم أجد نفسي وقد تلقيت في ردائي قطعة كبيرة من اللحم.

لما أكلت كل الذي أعطوك.

-نعم.. يا رفيق..

-ماذا كنت تقول إذن..

وأشار إلى قطعة اللحم الباقية معي. وفتات الكدر..

-لقد أكلت معظم ما أخذت..

-نعم وماذا في ذلك..

هز كتفه قائلا.. لاشيء..

-إذن..

وقام الشاب من جانبي. ومضى قائلا:

-وداعا يا رفيق.. لعلنا نلتقي..

يا لأخلاق هؤلاء الناس.. أنهم غامضون. ومضيت ألتهم ما بقى.

ومضى اليوم الثاني من وجودي في المدينة. وذهبت إلى شيخ رأيته في صحن المسجد.. صباح اليوم الثالث. وأقريته السلام.. وقبلت يديه. كانت لحيته بيضاء المصبوغة " بالحناء "تمسح الأرض والتجاعيد تغطي وجهه كله.. وملابسه البيضاء.. صبغها بلون أصفر.. فأصبحت باهتة.. ويداه ورجلاه وشعر رأسه الأشيب كلها صبغت باللون الأحمر.. بالحناء. وجلست بجانبه. كان يردد أغنية لم أفهمها. وكانت أصابع يده تسقط حبات المسبحة. وفتح عينه الضيقة. ونظر إلي وأنا أقبل يده.. ثم أتاني صوته كأنه خارج من أعماق كهف عميق.. ماذا تريد يا بني..؟؟

-أنني جديد هنا..

-إذن..

-لا أعرف ماذا أعمل..

-ماذا أتيت تعمل هنا..

-ونظرت إليه في استغراب.. ولكني أجبته..

-أنني أتيت لأتعلم..

ففتح الرجل. الشيخ.. عينيه الضيقتين.

تتعلم. تتعلم.. وماذا تتعلم.. وجعل يهز رأسه.. لقد ذهب العلم والعلماء.. يا بني. ولم يبق هنا شيئا. ونظر إلي.. من الذي خدعك وقال لك أن هنا علم. من أين أتيت يا بني..؟

-من لواء تعز..؟

-آه لواء تعز.. كيف الناس هواك.. أنني لم أرها منذ فترة طويلة.. من أي مكان أنت من هذا اللواء..

-الصلو..

وجعل الرجل العجوز يعيد على مسامعي. قصة حياته حين كان شابا..:

كان لنا يا بني حياة.. كبيرة. كنا نشعر بأننا نعيشها. أما اليوم.. فأنتم الشباب.. لا تعرفون لحياتكم معنى. لقد فقدتم أشياء كثيرة. لأنكم فقدتم حريتكم. يا بني لكي تتعلم لا بد أن تصبح حرا. أنك لست حرا. هناك جدار أسود كبير.. أهدم هذا الجدار.. ثم جئني. وأنا أعلمك.. معنى الحياة "..

وجعلت أصغي إليه.. بالرغم من أطالته في الحديث إلا أنني وجت فيه أشياء كنت أجهلها من قبل. وجعل يحدثني عن زبيد.. قائلا: " أنها مدينة بسيطة. كانت قديما يا بني عامرة بأشياء كثيرة. كانت المساجد.. لا كما تراها اليوم. " قذرة " لا يعتني بها أحد.. كانت قديما تتلألأ بالنور. وكان طلاب العلم يفدون إليها من كل أنحاء اليمن. ويجدون هنا الخير. كانت الأوقاف التي للمساجد.. تردد أموالا طائلة. تكفي لكي يعيش الطالب هنا ويتعلم ما يريد. أما اليوم.. فأين الأرض يا بني.. أين الأوقاف. لقد أخذتها الحكومة.. بدعوى أنها ستتكفل بكل شيء. فذهبت الأرض. وذهب العلم فلا يستطيع الطالب اليوم إلا أن يتفق على نفسه.. ولكنه لا يوجد طلاب.. اليوم ".... وسكت.. وسألته مستوضحا.

لقد رأيت كثيرين اليوم اليوم يأخذون نصيبهم من الأكل في صحن المسجد.. فمن هم إذن إذا لم يكونوا طلابا.

اتسعت عينا الرجل الشيخ.. وهو يجيب..

-أنهم أهالي المدينة يا ابني. وهذا الذي وزع اليوم.. هو صدقة من حاكم المدينة.. لأن " إحدى " زوجاته قد ماتت بالأمس. فلا تظن أنه للطلبة وأن أولئك طلابا.

هزني حديث الشيخ.. أين أمضى إذن إذا لم أجد مالا وملبسا. تعليما. وقام الشيخ يصلي بينما جلست أفكر. ماذا أعمل.. هل أعود إلى القرية أم استمر في رحلتي إلى ما لا نهاية. وبدأت صور كثيرة تجول في ذهني.. المدينة والسور.. والشمس وهي تغيب من فوق المقابر.. ذلك الوادي السعيد " وادي الزبيد " الذي يبدو كثعبان يتلوى وسط. الصحراء.. وأنا.. والشيخ والطالب الذي رأيته من ساعات.

وأخرجني من ذهولي ذلك صوت الشيخ.. وهو يدعوني.. ولكني وتمسكت به قائلا:

-إلى أين أذهب إذن يا سيدي..

كان في صوتي نغمة.. جديدة لم أعهدها من قبل.. نغمة الخوف من المصير المجهول.

وقادني الشيخ معه إلى الخارج.. قائلا.. تعال معي لعلي استطيع أن أرد بأيوائك بعض ما فعله الناس لي حين كنت في " لواء تعز ".

وعشت يا أصدقائي مع الرجل العجوز في بيته. كان يعلمني قراءة القرآن وكان يغيب كثيرا عن المنزل لأنه يذهب إلى منزل الحاكم.. وغيره من رجال الحكومة حيث يسليهم بأحاديثه.. وحكاياته.. عن الاقدمين. كان ورعا حين يتحدث.. عن الماضي.. عن الشعراء.. وأشعارهم.. وعن المحبين.. و..

وحاولت أن أتعلم الكتابة. ولكني لم أستطع لأنني كنت أعمل في الأعمال المنزلية أكثر من عملي في حقل العلوم.. ولكني استطعت أن أحفظ أجزاء من القرآن.

وذات يوم.. صحبني الشيخ معه إلى منزل " العامل " كان منزله.. بجوار منزل " الحاكم " .. كبيرا قديما.. كقلعة وعلى الباب عدد من الجنود " العكفة " ونوافذ المنزل مطلية كلها باللون الأبيض.

كان المنزل من الداخل جميلا.. خاصة " المبرز " حيث الستائر الحريرية.. والمفارش الفارسية معلقة على الجدران. وفرشت أرض " المبرز " بقطائف جميلة الصنع. كان الشيخ يدعي " العمى " .. ويقول أنه لا يرى. ولكن حياتي معه أثبتت العكس.. وقال مفسراً ذلك..

" عندما تعيش يا بني مع ناس أعمى الله بصائرهم.. يعيشون في الفسق والفجور ويدعون أنهم أتقياء.. لا بد وأن تعمي بصرك.. حتى لا تكشف حقيقتهم. لتستطيع أن تعيش".

وكنت في ذلك الوقت يا أصدقاء أملك صوتا جميلا.. وحين كنت أتلو القرآن.. كان الشيخ يعجب بذلك..

كان المبرز كبيرا.. ضمت أرجاؤه الكثير من الناس. وبدأت أتلو القرآن.. كان الشيخ يعجب بذلك..

كان المبرز كبيرا.. ضمت أرجاؤه الكثير من الناس. وبدأت أتلو القرآن. كان الجميع ينظرون إلي في إعجاب. وخفت في أول الأمر. ولكن. في النهاية نزعت الخوف عني. وعدت إلى المنزل والشيخ يثني علي كثيرا.. لأنني كنت السبب في إعجاب الحاضرين.. وفي حصوله على مبلغ كبير من المال.

ومضى يومان على ذلك.. أقبل الشيخ بعدها وهو يبتسم قائلا: ستذهب اليوم إلى بيت العامل.. ووافقت.. ولكنه أردف قائلا.. ستكون هناك وحدك.. وبان التساؤل في وجهي. واستمر قائلا أنك لن تذهب " للعامل ". كانت شابة في الخامسة والعشرين من عمرها سمراء كلون تهامه.. تملك عينين. فيها سحر خارق، وحواجب سوداء كثيفة. قصيرة القامة.. ممتلئة الجسم. كأجمل ما تكون المرأة. وكان " المبرز " الذي استقبلتني فيه مخالفا للمبرز الذي كان فيه زوجها العجوز.. ذو الستين خريفا. وكان هناك عدد من النساء معظمهن في جمال زوجة " العامل ".. أجملهن فتاة استهوتني من أول نظرة. هي حسب ما عرفته في النهاية ابنة " الحاكم ". وارتجفت. وأنا أرى هذه العيون كلها متجهة تنظر إلي. كنت شابا في السادسة عشر تقريبا. ولكن الحياة جعلتني أملك جسما قويا.. وشمس تهامة أحالت بشرتي إلى لون لبن. وبدأت أتلو سورة " يوسف ". لم أكن أحب أن أقلدها.. إلا أن أصرار النساء جعلني أرضخ. لا تستطيعون تصور مقدار ما يشعر به الإنسان وهو يرى نساء جميلات ينظرن إليه بإعجاب. وقرأت. وانتهيت ثم أكلت.. كثيرا. ثم أعدت القراءة ثانية. كانت روائح العطور تختلط بالعرق الذي يتصبب مني. وببطء بالعرق الذي تصنعه " حواء " . وشعرت أن المبرز يفرغ ببطء. لم يبق في النهاية. سوى زوجة " العامل" وأنا..

وهنا توقف البحار. ورأيت عينيه تلتهمان الفراغ.. كأنه يرسم فيه صورة رائعة لزوجة " العامل"..

" نعم يا أصدقاء.. كنا وحيدين. وانغلق الباب. وسمعت صوتها الملائكي.. تطلب مني أن أتلو لها مقطعا من سورة يوسف. مقطع زوجة العزيز.. وهي تراود يوسف عن نفسها وقرأت المقطع ثم أعدته ثانية وثالثة و" زوجة العزيز " تقترب مني.. كانت ثائرة.. تنطلق الوحشية من بين عينيها.. وتساقطت جداول من شعرها الأسود.. ورأيت شفتيها تتحجران وتركزت عيناها علي.. وبدأت ارتجف.. واختلطت رائحة العرق الذي تصيب مني برائحتها الجميلة.. رائحة النعمة.. والحياة السهلة"...

وحين عدت إلى المنزل كان في حبيبي ريالات فضية جديدة لم أعدها. وفي داخلي حيوان هادئ.. ارتوي لأول مرة في حياته أما الجانب الطيب من نفسي فكان يتعجب.. ألا يتوحد الغني والفقير إلا في هذه الناحية فقط.. أليس هناك فقط تلاقيا آخر؟ فلا يجد الجواب.. وكانت الرائحة تفوح من ملابسي حين كنت أعد الريالات للشيخ.. وكنت أراه يشم الرائحة بنهم شديد ثم قال:..

-لقد تطيبت فيما أرى. ثم وضع يده على كتفي. واستمر .. أرجو أن يديم الله لك هذا الطيب.. فهو الطريق الوحيد هناك لكي تعيش وتتعلم.. ومضى.

وترددت بعد ذلك على كلا المنزلين.. منزل " العامل". ومنزل " الحاكم ". وفي كليهما. كان لي سرير. دافئ. وامرأة.. تمنحني ما أشاء. ولكني فضلت أن أترك القذارة التي أعيش فيها.. أردت من قبل أن أهرب من عبودية العمل في دكان.. لأقع الآن في عبودية .. المرأة.

وفي ليلة كان القمر يرسل فيها أشعته الحزينة.. على المدينة.. وكان الوادي يتلوى بألم.. وكانت أصوات كثيرة. تنبعث من داخل المقابر. خيل إلي أنها.. تقول " لن نموت .. نحن ما زلنا أحياء.. ننظر إلى قاذوراتكم.." انطلقت أقطع الطريق إلى الهضبة.. ومن هناك ألقيت آخر نظرة على " زبيد " كانت المآذن ترتفع إلى السماء.. وبجانبها.ز تقع قلعتان.. تغطيان السور.. أما من الجهة الأخرى بمجرد عشش.. لا غير.

ونامت المدينة.. ولكن المقابر لم تنم. لعلها تجد الحياة في الليل.. حيث لا يكون في " تهامة" أنجاس ولا قيود. لعل الموتى يجدون الحرية.. والتنفس.. في الليل فقط.

ومضيت يا أصدقاء. أقطع الطريق نحو الشمال. وفي ذات ليلة مسودة. أضاء لي الطريق وهج أحمر. يتصاعد إلى عنان السماء... أهذه هي الحديدة، تستقبلني بالأنوار. وخطوات خطوات إلى أبواب المدينة.

كانت تنام في سهل ساحلي.. ضيق.. يحيط بها البحر. والصحراء تلتهم الجزء الخلفي منها. وكانت تنقسم إلى قسمين.. قسم مبني بالحجارة. واللبن حيث الأسواق وبين " الحاكم " ودار أضيافة. والميناء القديم المهدم ومبنى كبير للسيارات. وعدة مخازن كبيرة لتجارة الحديدة.. أما القسم الآخر.. فهو مبنى كله من الحشيش وسعف النخيل.. كان لسكني " الاخدام " والطبقة الفقيرة.. وما أكثرها هناك. وكان هذا القسم الأخير هو الذي استقبلني بلهيبه الأحمر.. المتصاعد إلى السماء. كان يحترق.

وجلست يا أصدقاء على باب المدينة بعيدا عن كل شيء. عن الضوضاء. والحريق. والصراخ. كان كل شيء يحترق. وكان الجميع ينظرون هل في استطاعتهم أن يعملوا شيئا لوقف الحريق.. ويهز معظمهم رؤوسهم قائلين.. كلا.. لا أمل. ولكنت أتحترق المدينة كلها.. فتعود الرؤوس تهتز مرة أخرى.. من قال ذلك أن الذي يحترق دائما هو ملك الفقراء. أما ملك الأغنياء فلا يحترق. وأهز رأسي.. أنها دائما نفس القصة. الأغنياء. والفقراء.. ويرتفع اللهب.. ويلتهم عششنا أخرى.. ويتصارخ الأطفال والنساء. أن كل ما كانوا يملكون يحترق القسم الأخر من المدينة. كأن الله قد حصن ذلك القسم بقوة غيبيه. لكن العشش تحترق .. وتحترق.

هل أعود اذن من حين أتيت.. أم أتابع المسير. أنا لا أريد مرة أخرى أن استعيد هذه القصة الملكة السخيفة.. أغنياء.. فقراء. وأجر قدمي حتى الميناء وهناك في البحر تقف عدة سفن.. لماذا لا تأتي على هنا.. فينظر إلي أحد العمال.. الهزيلين. المقطعي الملابس.. الحافيين. وأين نقف إن هي أتت هنا. وأشار إلى الرمال المتكدسة على الميناء. أذن لا بد أن أعود.ز لأنه.. ليس لدي مكان في هذا العالم.

وغادرت المدينة.. والنار لا تزال تلتهم العشش. والفقراء مرميين في العراء.. لا مكان لهم ولا مأوى ولا علاج.ز لا شيء مطلقا.. سوى الألم. وارى أمامي قافلة طويلة تمضي إلى ما لا نهاية في وسط الصحراء فالحق بها.. فإذا بأحدهم يقبل نحوي..

-إلى أين يا صديقي..

-معكم اينما ذهبتم..

فيبتسم الرجال وينظر إلى بشرتي السمراء.. كان اسمر مثلي.. وكانت كل القافلة.. كذلك سمراء..

-أننا "أخدام " يا صديقي..

-ولو.. لقد أصبحنا كلنا "أخدام" لتفاهة تعشش فوق صدر بلادنا.

وتمضي القافلة وأنا معها فيرتفع من الوسط صوت امرأة حزينة.. لكنه صوت قوي.ز يردد أغنية فيها الأمل. وفيها الألم. فيها كل مأساتنا. ويسكت الصوت ليرتفع صوت الذي كان بجانبي.. بنفس القوة.. وبنفس النغمة الحزينة.. التي تحمل الأمل.. والألم. وينتهي كل شيء.. بأن أجد نفسي فوق باخرة تشق عباب البحر. تمضي نحو المجهول.

ويصمت رفيقنا البحار لنغوص في دوامة كبيرة من التفكير يقطعها الصنعاني قائلا:

-هكذا نحن.ز وهل هكذا سنستمر..

-ولكن البحار يجيب:

-كنا كذلك.. ولكننا لن نستمر..

ونعود جميعا إلى الصمت.. نفكر في المأساة. المأساة كل يمني.. بلا مأوى . بلا سكن. حتى.. بلا أمل . ورأيت في عين"البحار" ألم فين. كان يقول:

"لقد رضيت أن أتنازل عن قبيلتي وأسير مع " الاخدام ".. ولكني لن أتنازل عن "إنسانيتي".

(18)

لم أحدثك عن القرية منذ رمن بعيد. منذ تركتها .. أن الأحوال لا تزال كما هي. ذهب موسم الأمطار.. وأتي الشتاء. ومعه المجاعة. هناك عشرات.. بل مئات من الأسرة تشردت هذا العام.

كان الوقت ليلا. والقمر يرسل أشعته الأخيرة. قبيل أن يغيب. وسط السحب.. وهواء البحر الرقيق يداعب وجوهنا.. بينما يصفر الصنعاني. لحن أغنية صنعانية قديمة ثم ينطلق بكلماتها. وبجانبه كان " البحار " يرسل نظراته الحائرة القلقة دائما إلى المجهول. ثم يغمض عينيه ليسترسل في أحلامه. بينما كنت أنا أنظر إلى الجميع.. فض رسالة حملها "الجمال" لي منذ ساعات. ونسيت تلاوتها.. وبانت الحروف صغيرة.. والخط غير وأضح.. وبدأت الكلمات تتراقص أمام يني. ثم تتراقص حتى أصل إلى التوقيع.. "محمد مقبل" . ثم أعود إلى البداية من جديد. واهتزت الورقة. وتراخت يداي وقدماي. وشعرت بالحرارة الخانقة.. تسري في جسمي. وبدأ العرق يتصبب من جسمي. وسكنت صفارة الصنعاني. بينما بدأت عين البحار ترمقني بقلق وأضح.. كانت الورقة تهتز بعنف وجعلت أحدق في الغرفة ثم أعود لا حدق في الكتابة من جديد.

وشعرت بيد الصنعاني تهزني بقوة ونظرت إليه.. كنت قد نسيت وجوده. بل لقد نسيت وجودي. دقائق بسيطة لا تتعدى الخمس. شعرت فيها أنني بعيد عن هذا العالم.. وسمعت صوته. صوت الصنعاني. كأنه فحيح أفعى. كان يهزني. وكان يتكلم.. ولكني لم اسمع ما قاله..

وهزني بعنف.. أكثر من قبل فخفض راسي.. ثم مسحت حبا العرق المتصببة.. ونظرت إلى الجميع.. وسمعت صوت الصنعاني واضحا..

-مالك..؟

-وأشرت له بالخطاب.. وخرجت الكلمات من فمي ميتة..

-لقد ماتت..

-من؟

ماتت.. لا أدري كيف.. كل ما هناك أنها ماتت..

-وهزني من جديد..

ولكن من هي التي ماتت..

ونظرت إليه في استغراب..أهو لا يعرف إلى الآن من الذي مات؟؟ ثم نظرت إلى "البحار" كأنني أريده أن يفهم الصنعاني.. ولكني رأيت عيون البحار تتابعني في فضول وتساؤل.ز من مات.. ؟؟

وأشرت لهم بالخطاب..

-ألا تعرفون من مات.. وارتفع صوتي فجأة.. اذن ماذا تعلمون هنا..؟ وانزع الصنعاني الخطاب من يدي.. وبدأ يقرأ بينما غبت أنا في تفكير عميق.. وسطور الخطاب القليلة تظهر أمامي في وضوح..

"الولد نعمان.. حفظه الله..

انتقلت إلى رحمة الله.. هذا اليوم زوجتك.. هند .. وهي تضع مولودها. الأول. وكانت الوالادة صعبة مما أدى إلى وفاتها..ووفاة الولد.. أرجو أن تتحمل الصدمة.. فإن لله وإنا إليه راجعون..

والدك محمد مقبل"..

وتساءلت.. هذه الكلمات البسيطة.. بل التافهة.. تحمل كل هذا النبأ.. ماتت.. ولكن كيف ماتت؟.. ولماذا؟ أنها لم تخبرني بذلك عندما تركتها تبتسم في الوادي.. ولم تخبرني حين وضعت يدها على بطنها.. تقول..

-أن في داخلي شيئا يتحرك يا نعمان..

كانت مسرورة أنها ستلد.. وكانت تقول لي دائما أنها تتمنى أن تلد "ولدأ" يكون مثلي.. قويا.. وسيما. ثم يموت كل ذلك التوقد.. والقوة الخارقة.ز أنني أعرفها تعمل في اليوم أكثر من عشرين ساعة أحيانا.. فلا تتألم ولا تشكو. كانت تعمل في البيت. وفي الحقل. وفي كل مكان. أنني لا زلت أذكر.. أننا ذهبنا يوما لنأتي بحشيش للماشية من مكان بعيد عن القرية فحملت أكثر من عشر حزم بينما حملت أنا " حزمتين" أثنين وكنت أزحف تحت حملي.. بينما مضت هي بحملها الثقيب إلى أن وصلت الدار. ثم عادت لى منتصف الطريق لتحمل معي. كل ذلك النشاط يموت. أنني لا أصدق مطلقا.. ولكن ها هي ذي السطور الخمسة تظهر أمامي.. مرة أخرى.. هل جن محمد مقبل ليخبرني بذلك..؟ لا بدوانه جن.. ولكن لا.. لقد رأيت الجمال وهو يمد لي الخطاب كان يبدو حزينا.. وكان مترددا في عطائي الخطاب.. ولكني لم ألا حظ ذلك. لقد كنت اليوم مسرورا.. حتى أنني نسيت أن أسأله.. ككل مرة.. عن صحة العائلة. وهو بدوره لم يخبرني اليوم عن شيء.. وأن مد الخطاب.ثم رأيت سحابة حزن مر على وجهه المتجعد. وتناولت الخطاب ووضعته في جيبي. ومضيت للعمل. ونسيته حتى الآن. يا الهي.. أكثر من عشر ساعات وهي ميتة في جيبي.. أه لقد ثبت الحقيقة أنني لا أحبها.. أثناء.حياتها.. أو بعد موتها..لقد ماتت ولكنها كانت تقوم حتى ثناء موتها بعملية خلق.ز كعملياتها الخلاقة طول حياتها.. ولكن هذي العملية أدت إلى هزيمتها. لأول مرة. هل أضع لها تمثالا في قلبي.. حتى أتذكرها إلى الأبد.. وصعقني هذه الكلمة الأخيرة. أذكرها.. أتراني سأتذكرها حقا. أنا الذي لم اتكلم عنها مدة الأشهر الخمسة التي قضيتها في "عدن" كأنها لم تكن موجودة في الحياة. نعم لقد كنت مقصراً في حقها. وهي حية. ولن.. ما العمل الآن؟ وكيف أستطيع تذكرها..؟؟

ونظرت حولي. كان الوجوه التي تحيطني قد تحولت إلى ألوان شاحبة حزينة. لماذا يحزن هؤلاء.. هل مات لا حدهم إنسان كان يحبه.. كان يحبها نعم. لق كنت أحب "هند" منذ زن بعيد.. ولكن هذا الحب مات.. بعد فترة قصيرة.ز لست أدري لماذا .. أم لأن نساء المدينة قد أثرن في إلى درجة نسيت فيه كيف تكون نساء القرية. ولكن. هل كنت أحب " هند " ؟؟ ذلك سؤال لا بد أن أجيب عليه.

ورأيت أن الوجوه الصفر التي أمامي ما زالت تحدق في. ماذا يريد. هؤلاء من؟؟ لماذا لا يدعوني أفكر أتذكر ما هو هذا الشيء.. ؟ يا الهي. ما الذي حدث. العيون تلتهمني. لا بد أهرب. إلى أين ..؟ لا بد أن أبكي.. أبكي. نعم.. أنني لم أبك حين علمت بالخبر. حقيقة.. لقد أصبت بالدهشة. لأنني لم أكن أنتظر من "هند" بالذات أن تموت. لكني لم أبك. لماذا.. لا بد أن أبكي. نعم لابد. أيتها الدموع لماذا لا نزلين.. أنني أرجوك.. ولكنها تأبي .. هل جفوني مصنوعة من الزجاج.. تتأثر.. ورأيت قطرات من الدموع. تتساقط من عين الصنعاني . ترى ما أنني أرجوك.. ولكنها تأبي .. هل جفوني مصنوعة من الزجاجنيالذي جعله يبكي أن الذي مات لم تكن زوجته. بل زوجتي أنا .. ولم يكن طفله. بل طفلي. بل طفلي أنا. فلماذا يبكي أذن؟؟ لا بد أن هناك أمرا. نعم. لعله تذكر. زوجته .. أن ذلك جائز وهذا "البحار " أليس لديه أحد يتذكره فيبكي.. لعلي أستطيع أن أجد من دموعها.. مساعدا لدموعي أن تنزل. ولكن البحار لا يبكي. صلب عينيه في القضاء. وأدار في فمه كلمات لا تسمع. ما هي يا ترى .. هل يقوم مثل محمد مقبل " أنا لله وأنا إليه راجعون " . من هو الله هذا الذي أوجدنا في هذه الحياة. ليأتي في النهاية يقوم أنا ليه راجعون. هل نحن مقيدون به بحيث أننا لابد وأن نمضي عليه. إذا كان الأمر كذلك لماذا لا يدعنا نتمتع بشبابنا. ثم، حين نشبع من كل شيء لا مانع لدينا.. أما أن يأتي إلينا ونحن لما نزل في زهرة العمر ليقول لنا أننا إليه "راجعون ". من هو الله هذا الذي أوجدنا في هذه الحياة. ليأتي في النهاية يقول أنا إليه راجعون. هل نحن مقيدون به. بحيث أننا لا بد وأن نمضي إليه. إذا كان الأمر كذلك لماذا لا يدعنا نتمتع بشبابنا. ثم ، حين نشبع من كل شيء لا مانع لدينا.. أما ن يأتي إلينا ونحن لما نزل في زهرة العمر ليقول لنا أننا إليه "راجعون " لا بد وأنه "ظلم". لماذا أخذت يا رب "هند" ما الذي عملته فيك.. أنها ما زالت شابة.. كانت تحب أن تتمتع بشبابها أكثر مما تمتعت.. شابة؟.. من قال أنها شابة..؟ ألم أقل من قبل أنها بدأت تشيخ . نعد أنني أذكر ذلك جيدا.. كانت تعمل. وكانت تجهد نفسها. فبدأت وكأنها كبيرة في السن. لم تكن تهتم بنفسها. ولم تكن تعطي جسدها حقه من الراحة. كانت تعمل ليل نهار.. كأن العمل شيء مقدس لا بد من أدائه. لا بد أنها أذن لهذا ماتت..

شعرت بيد تهز يدي التي كانت ممدودة. من الذي مدها. هكذا .. أنا .. أنني لم أفعل ذلك .. لا بد أنهم هم الذين مدوها. هكذا . لكي يصافحوها.. هل يتصافح الناس. ضد الموت؟؟ لماذا يشدون علي يدي؟ أنهم يشجعوني.. أن الذي يحتاج إلى التشجيع هي هند.. لكي تستطيع تقبل حياتها الجديدة. لعلها هناك تجد سعادة. أكثر مما وجدته هنا. أنها على الأقل قد تخلصت من المجاعة.. ومن العذاب. ولكن "محمد مقبل" لم يقل كيف ماتت هل "تألمت".. لا بد أنها تألمت كثيرا.. وصرخت وتقلبت على جوانبها.. لا بد وأنها ماتت وهي تشكو من الجوع.. أنها تحمل كل شيء من أجل سعادة الآخرين.. كم كانت صموتة.. لا تتحدث كثيرا. ولكنها تبتسم .. ولا تتألم ولا تشكو.. كانت في المنزل. وكأنها ليست موجودة.. دون صوت .. ودون ضجة.. حتى عندما نخلو.. كانت هادئة دائما.

هل أنت سعيدة.. فتهز رأسها.. كلا

هل تشكين من شيء.. فتهز رأسها.. كلا

هل تريدين شيئا فتهز رأسها.. كلا

كانت تعمل في صمت.. وتنام في صمت.. وتبتسم في صمت.. كانت مثل أرضنا شابة وخطها الشيب سريعا.. ولكنها تعمل في هدوء وصمت لا تألم ولا تشكو. ولكنها تبتسم وتعمل. وتنتج. بلا توقف. وبلا أمنان.. لقد سقطت الأرض صريعة الطبيعة.. فهل أدركت هند أن دورها هي أيضا. مع الأرض صريعة الطبيعة.. فهل أدركت هند أن دورها هي أيضا. مع الأرض.. لا بد أنها ظنت ذلك.. فذهبت. يا للمأساة ستعود الأرض غدا.. ستنتج من جديد.. ولكن هل ستعود هند.. لا بد أن تعود.. نعم .. أتسمعيني يا هند لا بد أن تعودي..وأضرب الهوى بقبضة يدي.. ثم أنكب على الفراش لا غسله بالدموع. ويخلو المكان.. وأشعر أن جميع الأخطاء التي ارتكبها قد انزاحت. أنني أسقطت دمعة على .. "هند" . لم تكن شفقة أو رحمة ولكن دمعة حب. فلأول مرة أدرك مدى حاجتي لوجودها.. لقد كانت كل شيء في حياتي. دون أن أحس بها.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
06-11-2012, 02:33 AM #5 الصورة الرمزية د. مختار محرم د. مختار محرم  د. مختار محرم غير متواجد حالياً
المؤسس

تاريخ التسجيل
Aug 2011
المشاركات
1,964
معدل تقييم المستوى
10
افتراضي
(19)


ماتت " هند " وخيم على المنزل في " القرية " نفس الهدوء ونفس السكون.. لقد كانت " الدينامو " الذي يسير كل شيء فيه.. أن المنزل يشكو الألم. وكل ركن فيه يردد .. لمسات يدها.. الحانية .. لقد كانت أما.. حتى للأحجار.

ولكني مازلت أعيش في " عدن " التقط. أخبار القرية.. من كل إنسان لقد أدركت لأول مرة مدى ارتباطي بالقرية.. حيث تدفن في ترابها.. جميع أحلامها. ولكن أيضا من خلال ترابها ستولد كل أحلامنا من جديد. هناك القلب الحي.. المتفتح أما هنا. يا صديقي فلا شيء سوى جسد ميت بلا قلب.. مجرد أله كبيرة تلتهم الناس والجبال والمعادن. كل شيء فيها سواء.. بلا تميز .. لأنها كما قلت بلا قلب مطلقا.. وأظن أن جميع من فيها أيضا قد فقدوا قلوبهم.

مدينتنا كبيرة جداً.. حتى أنني لا أعرف حقيقة خفاياها. وفي الليل تلمع المدينة تحت أضواء لا نهائية ويتلهم البحر في أعماقه ضجيجها ومآسيها. كما يبتلع الناس الذي فقدوا الأمل في حياة سعيدة.

وهناك جوانب الجبال حيث تنام أكواخ عارية.. سوى من السعف والأخشاب يتمدد العالم لا نهائي. يحمل في طياته حقيقة القلب الإنساني الممزق. هناك أقضي هذه الأيام أوقاتي.. بين أحضان امرأة. وتحت تأثير زجاجات الخمر المتتالية. هل معنى. ذلك أنني فقدت الأمل ؟؟ أضن. لان الأمل أما أن أكون فقدته منذ أن ولدت. وأما أنه يعيش.. وسيظل يعيش إلى الأبد.


(20)
مضت أيام وأنا أفكر.. ثم وأنا لا أفكر. أن أشياء بسيطة تصنع منا مآسي.. وأشياء أكثر بساطة.. تجعلنا سعداء. آذن فقد ماتت " هند ".

هذا هو استنتاجي الأخير.. بعد كل ليلة شاقة.. مرعبة . ثم أجد نفسي بين أحضان امرأة.. من هي؟ لا أعرفها. مجرد امرأة وجدتها في الطري.. فأخذتها لكي أصب عليها لعناتي..

وتمضي بنا الأيام.. لنجد في النهاية مهزلة كبرى. تحاك حولنا. أنني لا أعرف كيف أعيش؟ لأنني لم أتعلم ذلك إلى الآن. لذلك أجد أن كل صدمة قد تؤخرني على الوراء.. وقد تقدمني خطوات.. ولكن الذي أعرفه الآن تماما شيء واحد.. كان يردده الصنعاني من قبل.. أن نسكر ونسكر.. ثم ننسى أننا أحياء، وحين أبدأ في تنفيذ هذا الشعار.. أجد كلمات أخرى أبسط وأكثر وضوحا.. أن نسكر شيء جميل. ولكن ن ننسى تلك هي المشكلة.

أن الخمرة قد تفقدنا الوعي.. ولكنها لا تنسينا. بل تجعل الأشياء التي نريد نسيانها كشريط سينمائي.ز يتكرر أمامنا بوضوح أكثر مما قد. تفقدنا الوعي.

تلك هي كلمات محمد مقبل. وأنا محتار رغم أن الصنعاني قد ترك " شعاره " وأصبح أكثر تقدما من . لعله وجد أن محاولته لا تجدي.

أحيانا حين أنظر إلى المدينة من تلك الأكواخ الرابطة تحت أقدام الجبل.. أجدها كعملاق فتح ذراعية القويتين. ليخطف كل شيء في أعماقه. ثم يبتلعها أو يقذف بها على الخارج الهائج. وأحيانا أراها جميلة. رقيقة. كفتاة عذراء. يصطبغ وجهها بحمرة الخجل. حين تنظر إلى حبيبها. ولا أدري أي الصورتين تطابق واق المدينة الحي. المتحرك. المليء بالضجيج عجلات قاطرة تبتلع الشريط في جوفها. ثم تقذف به خلفها. ودون توقف. ترى ما الذي حل بالشريط.. أنها الحياة. بكل ما فيها من روعة.. ومأساة. ولكننا نحن اليمنيين لا نشعر. إلا بمأساتها. هنا نجتر ليالينا السوداء.. تحت أضواء خافتة.. في الجبل. أو السيسبان في أحضان عاهرة. أو في مضغ أعشب خضراء من القات. أو احتساء خمره لا تنهي.. كلما شربنا ازددنا ظلماً.

القمر يرسل أشعته.. فيبدو حزينا. وحيدا. بل رفيق. ومن حولي تنبعث ضجة خافته. إنها " زينب ".. عاهرتي الجديدة.. التي تحاول أن تنسيني. حياتي.. ولكنها لا نستطيع أن تنسى حياتها هي. أنها جميلة نوعا ما .. في الخامسة عشر من عمرها لكنها الخريف. ذات عيون ذابلة.. وشفاه صفراء ميتة.. وأنف. عرف رائحة الطين مرارا. وأخيراً جسد.. تتمدد فوقه.. كل طبقات بلادنا. وها أنذا.. أخذ دوري.. فوقه.

وفي هذه الأيام العشر التي رأيتها فيها.. استطعت أن أخرج منا شيئا جديداً. لعله الوفاء.. قالت لي في أول لقاء..

" أني أريد عشرة شلنات من أجل ليلة واحدة. ودسست تلك العشرة في يدها.. ومضينا إلى بيتها.. وما زالت تملك العشرة اليتيمة التي دفعتها لها. لعلها تنظر من المزيد.. ولكنها لا تطلبه. كل ما تريده هو أن تأتي وتتمدد بجانبي.. ثم تقول .. أعطني قليل من دفئك".

وابتسم.. لأنني أنا الذي كنت أطلب دفئها. ثم تستمر قائلة.. أنك تموت نفسك يا صديقي. فالخمر تعبها بلا طعم والجسد تمضغه بدون شهية. حتى النوم لا تعرفه جيدا.. دعني أضع قليلا من الهدوء. فأجيبها.. أنني يا صديقي أريد أن أعيش. أن أسكر. وضاجع.. وأنام. وأعمل كل ذلك. لكي أعيش.. لكي أعرف معنى الحياة.. معنى وجودي.. ولكنها تطلب مني.. (أن أحب.. لكي أعرف الحياة).

وأسالها .. هل أحببت؟؟

فتتنهد. ثم تلتصق بي. أنه هو الذي دفني إلى هنا.. وتضرب صدري بيدها.. ثم تغوص فيه ها هي ذي تقترب وتتمدد بجانبي.. وتضيف.. دعني أنسيك ألامك. أنه نداء مغر.. ولكن أمقته. لا أدري لماذا.. هل لأنني أدوس بقدمي هذه فتاه في عمر الربيع. ولكني لا صدق.. لأن المدينة بصمتها وضجيجها تدوس كل ليلة. ألاف الفتيات.. كما أنها تسحقنا نحن الذي نتصبب عرقا طول النهار.

زينب ملأت حياتي. واستطاعت بك بساطة أن تشعرني بأن هناك في الحياة.. أشياء جميلة. ولكن الذي يصنع لي الألم.. هو أنني كدت أنسى هند.. وأن فتاة صغيرة عرف كل أنواع الرجال جدها.. هو الذي أنساني زوجتي. لماذا أبكي؟ كلنا نموت. وهنا أنستني مأساة الإنسان. وهناك تحت هذه ألعشه التي فيها مع " زينب " تمتد إلى ما لا نهاية إلى أطراف البحر طيور لا تنتهي. وفي كل يوم أشهد أنسانا جديدا يدفن. وأتخيل كل إنسان في كفنه الأبيض.. وجسده الهامد.. "هند" .. وهي تضم إليه الإنسان الذي ولدته وماتت معه.. أبنها. وأبني. عندئذ أشعر بالمأساة ليست مأساتي أنا وحدي ولكنها مأساة كل فأتألم وأبكي. على كل إنسان يدفن هناك تحت نظري. وأنا .. أنا الإنسان لا أستطيع ألا أن أشاهد وأبكي. أليس في استطاعتي أن أقف أمام الموت. صائحا -: قف مكانك لا تحاول ن تأخذ البشرية.

وأن أبي.. مسكت بحربته التي يحملها.. وأنتزعها ثم أغرسها في أعماقه وأخلص منه البشرية.

آه. كم أكره الموت. أنه يبدو لي كريها.. هناك تمتد أمامي المقابر. فأخلها. مدينة كبيرة عامرة. يعيشها موتاها. وليست تلك القبور سوى مكان يأوون إليه حين يشعرون بالتعب. أنها حياة. ويزيدها صخبا ضجة الأموات. والزبد الأبيض الذي يمتد إلى أطرافها. حياة أشاهدها كما شاهدها من قبل "البحار". هناك في الشمال على أبواب (زبيد). أنها في كل مكان وفي كل عصر . حكاية تكررت منذ لازال . واستمرت فيه الإنسان أن ينتصر على الموت . ولكن صورة أخرى تظهر من خلال هذه الضباب الذي أعيشة . انه شعبنا . أتراه سينتصر هو الأخر على الموت . على النسيان أتراه سيبني من جديد مأثره وسدوده .. أتراه سيتحدى القدر .؟؟ سيقف أمامه هازئاً ؟.. أنني أؤمن بذلك أحياناً . وهاهي ذي (زينب )استطاعت أن تنتصر على مأساتها .. ولو أنها عاشت في مأساة أخرى .. إنها تبتسم دائما كأنها فتاة عذراء .. فتبدو لي كالشمس وهي تشرق من وراء البحر . فأضمها بين ذراعي وأطبع على شفتيها قبلة .. ثم تتمتم قائلة :

-أتحبني ..

-كلا فأنا لا أحب أحد ..

فيبدو على وجهها الصغير المصفر تجاعيد شابة. ثم تهز رأسها وتنظر معي إلى الأفق ثم تقول: مهما كان سيأتي يوم تحبني فيه.. وأجيبها وأنا أحدق في اللانهاية..

-لماذا تظنين ذلك؟؟

-لأنه لا بد وأن بحب الناس.. أنك لا تستطيع أن تعيش بدون الحب.

-وتعيشين أنت به.

تهز رأسها..

-نعم أني على الأقل أحبك..

-شكراً ي عزيزتي. كل ما أريده هو أن أنسى.. لا أن أحب..

-النسيان عملية صعبة.. ولكن الحب شيء بسيط. أسمع مني إذا أردت أن تعيش.. فحب الناس. أنسى أخطاءهم.. ومعاملتهم..وهبهم حبك. عندئذ فقط تستطيع أن تنسى وأن تعيش.

وأسكتها بقبلاتي.. ولكني أرى أمامي شبحين يقطعان الطريق الحجري الذي عشقناه في تمهل. ثم يقتربان منا فإذا بهما " الصنعاني " و " البحار " . تهب زينب من أحضاني وتذهب إلى داخل ألعشه بينما أجلس أنا على السرير. في تلك الردهة الصغيرة التي يحيطها سور الأخشاب والزنك وحجار الجبل.. أرى زينب من خلف الستار تنظر إلى القادمين كأنها فتاة خجولة تخاف أن يكتشفها الناس. ما أروعها حين تكون بريئة وتفتح الباب. ويدلف " الصنعاني " بقامته القصيرة وجسمه الممتلئ.. وعلى جسده نفس الملابس القديمة. ويدلف بعده " البحار " بقامته الطويلة وجسمه النحيف.. وعلى رأسه مشده جديدة. وفي يده خيزرانة رائعة.. ويبتسمان. مد الصنعاني يده وشد على يدي بقوى وشوق..

لقد افتقدناك كثيرا..؟

بينما ينظر إلي البحار باسما..

-أظن أنك قد نسيت أننا أصدقاؤك.. وأصافح البحار بحرارة.. فهذا الإنسان الذي لم أعرفه ألا من شهر أصبحت أشعر أنه قريب مني. وقري جدا. كان يتألم من أجلي كثيرا.. كأننا رفاق منذ الصبا. وسمعت صوته. وقد صبح حالما هادئاً.

-لقد غبت كثيرا ولم تخبرنا بذلك. وشعرت بالسعادة تغمرني وأنا أراهم بجانبي. وأحسست كأني مريض.. يزورني كل أهلي. وأنطلق الصنعاني يتحدث..

-أذن هكذا ببساطة تتركنا وتذهب..

- هاه أوه أنك لعين. أن الناس عندما يحزنون لا يأتون إلى هنا لكي يبحوا أنهم على الأقل يذهبون إلى المقابر. وقاطعته مشيرا إلى مدينة الأموات. التي تمتد إلى ما لا نهاية. وهز رأسه..

-أنه توقع فريد.. أليس كذلك..؟

قالها " البحار ط الذي كان ينظر إلى المقابر نظر إلى المقابر نظر عميقة..

-أنها تذكرني بزبيد.. قالها بصوت مخنوق.

-نعم أن كل شيء فيها لم يتغير. أن الإنسان ليتألم.. وهو ير ضعفه أمانه. وصرخ الصنعاني..

-دعنا من الحزن ألان.. أننا أتينا. لكي نشارك صديقنا حبه.. أليس كذلك .. ثم همس في أذني.. أعرف أن ذوقك مرهف.. من هذه الناحية.

أجبته " يا صديقي صدقني أنني لم أنظر إليها. عندما أتيت. لا ني لم أكن أريد الزواج."

ومالت الشمس إلى المغيب خلف مياه البحر. فعكست أنوارها الحمراء على رمال المقبرة البيضاء وعلى الألواح الحجرية المنصوبة على كل قبر.. وعلى تلك القيمة الكبيرة التي تتوسط المقبرة ـ أنها رائعة. هناك تغيب الشمس.. وهنا يدفن الإنسان. وهناك في قلب المدينة يتألم الكثيرون.. بينما آخرون يمسحون العرق من فوق أجسادهم .. وهم منهكون. في داخل كل منهم حلم كبير في حياة سعيدة. وفي أحضان أناس يحبونهم. أنه لا يعرف أن المصير هنا على بعد خطوات. ما ألعن أن نعيش لنموت.

وخيم الصمت علينا. نحن ننظر إلى " البحار " وهو يودع الشمس.. وينظر إلى المدينة والمقبرة. كان كل شيء قد أصطبغ باللون الأحمر. حتى وجه الصنعاني والبحار. وسمعنا أصوات الأمواج.. وهي ترتطم على رمال وصخور الشاطئ. بينما الزبد الأبيض يتحول إلى رمال.. تحت أقدام لمقابر.. إلى لون أحمر.. أحمر كالدم.

أنها دماء لأموات.. تنبعث من أجساها. أنهم ما زلوا أحياء.. يتألمون… ويلعنون كل شيء.. ثم يبصقون دماءهم حتى البحر.. أنه يعرف سرهم. ولكنه لا يتكلم. أنما يمتص دماءهم في جوفه.. ثم يعود غلى الشاطئ من جديد.

كان البحر يتكلم ونحن نستمع إليه .. وشعرت بشيء يشدني.. ورأيت في الأفق.. صورة صغيرة. بدأت تكبر. كلما اقتربت منا.. كان وجها أحمر في ملابس حمراء.. وبين يديه شيئا أحمر أيضا.. ورأيت قطرات تساقط من بين اليدين.. وكذلك. قطرات أخرى تنزل بغزارة من الرجلين.. ثم مرت الصورة. من فوقي مباشرة. وشعرت بقطرات تتساقط فوقي.. أنها هي؟ وصرخت بعنف.. هند .. هند..

والتفت الجميع إلي.. ثم قال الصنعاني. بصوت أخرجني من ذهولي..

-أنها السماء. بمطر.

ودخلنا ألعشه. وهناك كانت " زينب " تصنع شيئا ما. على النار. والتفتت عند دخولنا.. وأشرت إليها أن تقترب.. ونظرت إلى الأصدقاء وقلت لهم في صوت خافت. هزيل.. وأنا أشير إليها.

-هند.. أنها هند ثم التفت إلي الصنعاني قائلا: أليست هند جميلة..

وخيم سكون عميق. وقادتني " زينب " إلى السرير. كان العرق يصبب مني بغزارة.. وشعرت بالارتجاف. ثم رأيت عددا من " الكنابل " وهي ترمي فوق. وسمعت صوت الصنعاني يقول.. أرأيت ؟؟ أكان ضروريا أن تتحدث..؟ وأجابه البحار. لا تلمني؟؟ إنها الذكرى طغت علي..

بينما قالت لهم زينب بهدوء.. أنه ليس ذنبكم.. أنه ذنبي أنا.. أردت أن أنسيه شيئا عزيزا عليه. دون أن أفكر. أن هناك أشياء لا تنسى. كنت أطن.. أن الناس مثلي .. ينسون كل شيء بمجرد أن يشعر , أن حياتهم ستكون سعيدة.. حين يحبون.

ونظرت إلى الأصدقاء الذين كانوا ينظرون إلي بهدوء.ز وفي داخل كل منهم صور عديدة تتصارع ثم رأيت كلا منهم يتسحب في هدوء.. بينما أشتد ارتجافي، وبدأت أردد.. كلمات متقطعة… هند.. هند.. الدم مطر.. لا أريد أن أرى شيئا.. أبعديه عني.. أرجوك الدم يغرقني.. الأمطار أنها تهدم كل شيء.

وتساقطت قطرتان على خدي.. ثم شعرت بالجسد الصغير. النحيل. يمدد فوقي. لم يكن شيئا آخر.. يدفئني سوى جسدها. قطرات تتساقط من عينيها وقيلات حالة طبعتها على كل مكان في جسدها كانت تتعذب من أجلي.

(21)

عدت إلى المقهى فجأة. تركت كل شيء. زينب. عشها. وجسدها.. وعدت إلى الأصداء. إلى الغرفة. ذات السرر الخمس. والضوء البسيط. واكتب التي احتفظت بها في صندوق خشبي. صغير. تحت سريري.

واستقبلتني الوجوه.. الكادحة. التي خططتها التجاعيد.. وهي لا زالت شابة. ولكن الابتسام ألابتسام الذي كان يرتسم على تلك الوجوه يوحي بالثقة.. والإيمان. ورأيت يد ذات أصابع سمراء.. نحيلة تمتد إلي وتشدني. وجدت نفسي أغيب في صدر عريض يملاه الشعر الأسود الكثيف كان " الحاج علي " بسنواته الستين يعانقني. في حب عميق كان كل ما في المقهى ينظر إلي وكأنني إنسان جديد . خلق أو خرج من القبر. لماذا فشاركوني في هذا الألم. لكني لم تمزق.. كان الما بسيطا ثم أغرقته في بحر آخر.

سمعت صوت الصنعاني وهو يقهقه من داخل المقهى. لم أكن قد رأيته بعد وأشار إليه صاحب المقهى قائلاً.

-لقد بدأ يشرب من جديد. وبكثرة هذه المرة.

-ولكني سألته بدهشة.. لماذا؟؟

ألا تعلم.. لقد أقفلت الشركة أبوابها .. وأعلنت الإفلاس. وطردت كل العمال حتى.. حتى أنا .. أليس كذلك؟؟

وشعرت بسكين حاد يخترقني.. لماذا طردت؟؟ أنا لم أفعل شيئا.. لقد أخذت من الشركة أجازة بعد وفاة " هند " وها انذا مستعد للعودة للعمل. ورأيت الصنعاني يقف أمامي. كانت عيناه غائرتين وجسده يهتز بعنف. ورأيته يبتسم. أنه لم يكن كذلك منذ أسبوعين. حين أتي لزيارتي في الجبل. أيتغير الإنسان بهذه السرعة. وارتمى يعانقني وسمعته يمتع..

-لقد عدنا إلى الضياع من جديد. حتى أنت..

وأشار بأصبعه ـ حتى أنت هذه المرة..

-أن أمانا العالم كله.. فلماذا نحزن… وهز رأسه..

نعم. ولكن هذا العالم هنا.. آه ما أتعسنا.

وذهب كل إلى سريره. كانت كل الوجه تنسم عن شيء وأحد الفراغ. وأشرت إليهم..

حتى هؤلاء طردوا ؟؟

-نعم. الجميع.. ما عدا. البحار. فإنه ما زال مستمرا في عمل أنه ليس في شركتنا.

وجلست على سريري أنظر حولي في استغراب. كان كل شيء قد تحول في هذه المرة.الناس كل يجلس على سريره بنظر إلى الأخر بفراغ.. ومنهم من قد نام وآخرون يقفون على باب المقهى ينظرون إلى الشارع. آخرون تمردوا على كل شيء.. حتى على أنفسهم. ولم أعد أرى تلم الملابس المزركشة.ز التي كان يلبسها شباب " المقهى " بعد العودة من العمل.. كان كل منهم يلبس ملابس عادية.. ولا يهتم بشيء.

وأدرت النظر فغي الجميع.. حتى الصنعاني رأيته قد تمدد على السرير وراح في نومه وسمعت شقيقه.. وهو يتقلب فوق السرير.

ومد الحاج علي خطاب إلي وهو يقول..

-لقد وصل هذا منذ أيام. كنت أريد أن أرسله لك. ولكني لم أعرف أين كنت.. لذلك احتفظت به معي.

-شكرا. أرجو أن تكون أخبارا طيبة..

وفتحت الخطاب. مررت بعيني سريعا.. على كل شيء لأرى في النهاية توقيع " محمد مقبل ". وعدت لا قرأ ما فيه بامعان.. وابتسمت وجعلت أهز راسي.. كان يشجعني ويطلب أن أتحمل.. وأن أعمل بإخلاص. ثم يطلب مني أن أرسل لهم نقودا. ولكي يدفعوا " للشيخ " ضرائب الأرض. والزرع. وإلا تعرض والدي للسجن.

إذن. هناك مصائب في كل مكان. لقد أرسلت لهم حين ماتت هند معظم ما كان معي من نقود. وألان ها أنذا.. لا أملك " سنتا " وأحدا. وقد طردت من عملي. هكذا بدون سبب. أذن ما العمل؟ جعلت أفكر.

رأيت الصنعاني يتثاءب.. ثم يعود إلى النوم شاع صغير من الضوء يخترق الردهة. ويصل إلى الغرفة. وسمعت خطوات تقبل.. ثم رأيت قامة مديدة تقف على الباب. كان " البحار " قد عاد من عمله. وتصافحنا.. وشعر أن هناك شيئا.. وأريته الخطاب. وهز رأسه. وقال بعد أن أنهى القراءة.

-ما العمل الآن.

-لا أدري. سأذهب إلى الشركة. لعلني على الأقل أجد مستحقاتي. عن عملي فيها..

-وإذا لم تجد..؟

-يجب علي أن أحاول..

-لقد حاول الكثيرون... كان الجواب: الشركة أفلست. ليس هناك فائدة يا نعمان. يجب أن يجب أن تبحث عن عمل.. ولو نني أشك في حصولك عليه.

(22)

نعم ليس هناك فائدة. وها انذا بعد هذه الأيام والشهور. أعيش بلا عمل.. سوى الذكرى ذكرى أيام القرية. وزوجتي.. ثم عملي.

وألان ما العمل..؟ لا أكاد أصدق. أنني أعيش بلا عمل. والتفت حولي لأرى كل واحد من هؤلاء.. الذين كانوا بالأمس يشكون من إرهاق؟ العمل. وعدم وجود راحة كافية.. أجدهم ألان يشكون من الفراغ.. من الراحة هل هذه طبيعة بني الإنسان. يكرهون شيئا. وإذ فقدوه أحبوه. وتمنوا أن يعود.. أظن ذلك.

هل أعود إلى القرينة. هذا هو السؤال الذي يواجهني ألان. والتفت إلى " البحار" أحاول أن أعرف رأيه. ولكني أجد همسات تتابع من بين عينيه. فأسكت علني أسمع هذه الهمسات من فمه.. ولكنه صام لا يتحدث. والصنعاني.. أننا لا نراه هذا الأيام. لعل في الحانة.. يعب لينسى. والآخرون.. كل هؤلاء الذين كانوا بالأمس يفيضون شبابا وفتوة.. كسالى.. يتفوهون تفاهات .. وينامون..أو يتهامسون.

-يا ترى هل يرضى صاحب المتجر أن يسلفنا نقودا..؟

ويجيبه همس أخر..

-لا. لا تكن مغفلا.. ألا يكفيك ما أستلفته من قبل..

وصوت ثالث..

-من أين نأكل أذن..

ورابع.. وخامس.. أنهم لا يعرفون كيف يفكرون..

وأرى البحار يعاني الكلمات. ما العمل ..؟ كيف أجبره على الحديث.. ولكن شيئا ما يحدث فجأة .. يقلب أمامي كل شيء. أسمع صوتا.. قويا. معبرا. فيه ألم. وفيه.. مرارة. و..

-فين نعمان؟ . يا نعمان . يا نعمان..

والتفت إلى الصوت الدافئ الحزين .. الذي اعرفه جيدا.. صوت " محمد مقبل ". وارتمى في أحضانه.. كطفل تهاوى فجأة بين أحضان أمه.. بعد بكاء عنيف. وأحسست بالراحة. تشملي. الراحة أو قل الحماية.. لقد عدت طفلا.

ويربت " محمد مقبل " علي.. أنه لا بد يعرف المأساة. وأجلس بجانبه.. وأمانا البحار يحملق في الرجل العجوز الذي حطمته السنين ورأيت في محمد مقبل شيئا جديدا. كان ق غير.. أصبح أكثر نحافة. وظهرت التجاعيد على وجهه بشكل قوي.. وكانت دوائر سوداء كبيرة تحيط بعينيه كسور ضخم. ورأيت في ابتسامته شيئا. كاليأس .. أو.. آه لا أدري ما هو.. شيء كبير جثم على صدري فجأة.. فأحسست بالضياع هل هناك مأساة أخرى..؟؟ وظهر السؤال واضحا فوق عيني..

-نعم يا بني .. أنني أعرف ما الذي حدث لكم.. وهز محمد مقبل رأسه.. وأستمر.. ولكنها مشيئة القدر. وجعل يهز رأسه.

هل آمن محمد مقبل بسرعة بالقدر..؟ هل أصبح فيه كل مأساتنا..؟؟

ولكني لم أدع أفكاري تقودني بعيدا. بل جعلت أحوال أن أؤجل سماع ما جاء به محمد مقبل.. إلى ما بعد. أريد أن أستعد لاستقبال كل ما يريد قوله.

ولكنه لم يراع ذلك. كأن شيئا ثقيلا يجثم على صدره. فوق كاهله.. شيئا لا يتحمله. فهو يتعجل للخلاص منه هل أهرب.. الظروف بالذات. وكيف حال القرية. هل حدث هناك شيء.. لا أضن. لقد سمعت أن الأزهار قد بدأت تفتح هناك.. ولكن على القبور فقط. لعل وردتي الحمراء التي وضعتها على قبر " فتاه الجبل " قد أينعت. هل يا ترى .. أحد وضع على قبر زوجتي وردة. ولكن لماذا يضع.. وما علاقته بها.. ؟ يا إلهي. أترى .. أترى ذلك حقيقيا. كلا.. إنها ملاك. نعم. ولكن كذلك كان "فتاة الجبل ". جميلة. نقية. ملاك. ولق وضعت أنا على قبرها وردة. أنها حمراء. كلون الدم.. أو كلون الغروب فوق جبال بلادنا.. حين تتحول كل القمم أمامي. إلى حراب ملوثه بالدم. يا لها من مجرمة هذه القمم. تلتهم في أحضانها ألافا من التعساء. يعيشون بلا حياة. بلا غد .. حتى بلا أمل. أنهم يزرعون الأرض.. ولكن ليطعموا الآخرين. أن الأرض ليست بالنسبة لهم سوى قبر يدفن فيه كل طاقاتهم.. ثم كل جثثهم. لا فرق بينهم وبين .. وبين من ... ولكن ما الذي حدي بمحمد مقبل إلى العودة.. أتراه اشتاق لحياة المدنية من جديد. ونظرت إليه .. كانت في عينيه قطرات من دموع تتساقط. لماذا يبكي.. ؟ والتفت لأري البحار. كان هو الأخر في دوامة.. من التأثير.. هل قال شيئا...

-ولكن لم تبكي؟؟ ما الذي حدث..

ورفع رأسه: لا شيء.. لا شيء..

كيف لا شيء . وهذه الدموع.. ولكنه لم يقل شيئا.. أنه هذا الرجل. يتصرف بغرابة.. يبكي وهو لم يصل إلى هنا إلا منذ لحظات.

وكان جو المقهى مختنقا. والحرارة تلهب أجسامنا. ورأيت نفسي سابحا في بحيرة من العرق. ورغم ذلك فقد كنت أشعر بالبرد.. ورأيت فوق جسي كتلاً متراصة من الملابس.. ما الذي حث.؟ من ألبسني هذه الملابس كلها.. ولم أشعر رغم ذلك بالبرد. وسمعت صوتا يأتي من بعيد..

-أنه يهذي منذ أسبوع..

والتفت لأري من يتكلم.؟ ومن هو ذلك الذي يهذي. ورأيت الصنعاني يترنح في سكره.. لعله هو الذي يهذي. مسكين هذا الصنعاني.. أنه سرعان ما يفقد كل شيء. حين يحس أنه وجد كل شيء.

ورأيت أشباحا كثيرة حول محمد مقل.. وحاولت أن أبعد هؤلاء الناس عنه..أنه يكاد يختنق. ألا ترون. أفسحوا له الطريق. ومددت يدي لا دفع هؤلاء بعيدا.. ولكن ماذا هناك..أنني لا أستطيع التحرك. أنني مقيد.. هنا. فوق سريري..أن رأسي ليشعر الدوخة. أنه ثقيل لا أستطيع حركه. هل انفجرت قنبلة فيه. أن العالم يدور.. الغرفة تتلخبط.. الناس يضيعون من أمامي. محمد مقبل. أين أنت . أين أنت...

ولكن كل شيء ينمحي. ويضيع لا غيب في دوامة. ويقهقه صوت سكير. وأشعر بالصوت يمزق أذني. لا تقهقه.. أيها السكير. أنتم لماذا تقفون هكذا. ابتعدوا. عليكم اللعنة. يا ألهي.. ما الذي حدث.. زينب.. أنقذيني..أين أنت. مدي لي يدك. أنك رائعة. ملاك.. وينتهي كل شيء. ويغيب العالم من أمامي.. ولا أرى سوى الضباب.. أنني أشعر بالراحة.. لقد تخلصت من هؤلاء السخفاء.. أنني هنا وحيد.. أشعر بالراحة.. الضباب يغلف كل شيء. وأرى على بعد.. بحيرة جميلة تحيطها أشجار جميلة.. تحمل كلها أجمل ما يشتهيه الإنسان.. وفوق الماء. أرى ثلاث فاتنات.. كل واحدة أجمل من الأخرى.. وأسرع بالمسير لأرى هذه الجنة التي خلتها.. من دون باب.. ومن دون حارس. يا لهؤلاء الكذبة.. أنهم يكذبون على الناس.. يا للعجب يقولن أن للجنة أبواب.. وعليها أيضا حراس.. من أين يعرفون الجنة ليصفوها.. أما أنا.. فها هي ذي أمامي .. بلا رقيب فلامح .. كيفما شئت وتسرع الفتيات الثلاث إلى حين أصل إلى البحيرة.. كل منهم تريد أن أكون لها . ولكن يا إلهي.. هل أنا أحلم. أم أن هناك خرافة تعيش داخلي.. أنني لست فيا لجنة.. أنني ما زلت على الأرض. أن هؤلاء.. يا إلهي.. وكن كيف وصلن إلى هنا. يا للخبيثات أنهن يعرفن أين سأكون واقتربت أداهن.. أنها " فتاة الجبل السمراء " بابتسامتها الجذابة. وأنوثتها.. وصرخات الشيطان من ثنايا صدرها. أنها جميلة. بل أجمل مما كانت عليه هناك في الجبل.. إلى تريدني.. أنظر الست جميلة.. أنني لك يا نعمان.. خذني. أنني أحبك .. ألا ترى كل هذا الجمال. لقد مت من أجلك فق. وها أنا أعود إليك. لقد طلبت من الرب أن يجعلني هنا من أجلك..

ولكن الأخرى تقاطعها..

-أنت تكذبين على الرب.. أنا التي طلبت منه ذلك.. أنني أحبه.. وهو لي أنا وحدي..

أنها جريئة لا تهاب.. لعل صناعتها في الحياة علمتها ذلك أنها زينب.. ولكن متى أتت هنا...؟ وتبتسم وتقترب مني .. وتحيط عنقي .. وتبتسم..

- لقد سبقتك بلحظات.. حين علمت أنك تموت.

أموت. ولكني لم أمت. لقد كنت فقط أشعر بالاختناق في غرفة المقهى فهربت منها..

- بل لقد مت يا حبيبي.. وها أنا لك الآن..

- أنها تكذب.. بل أنا لك .. لقد أحببني. فوق الجبل كنت أراك. وأنت تختلس النظرات وتحاول أن تبتسم ثم لقاؤنا وأحاديثنا.. وتلك الوردة الحمراء التي زرعتها فوق قبري. إلا تذكر.. أنها قد أينعت. أنها لك يا حبيبي.. ومدت لي وردة حمراء يقطر الدم من بيد فروعها..

- أنها وردة. انتزعتها من هنا... وأشارت إلى مكان في صدرها تتساقط منه الدماء.. لقد زرعت الوردة. هنا يا حبيبي. فوق هذا الدر الذي يحمل قلبي. الذي هو ملك لك وحدك. أرأيت أنه يدعوك أن تملأه من جديد.

ويتصاعد من خلف الفاتنتين صوت بكاء. وأزيح كل من " زينب " و " فتاة الجبل " وهناك خلفها. وفوق صخرة على شاطئ البحيرة. كانت " هند ط تجلس نفس جلستها أمامي في الغرفة أو فوق سطح المنزل. نفس إيماءتها. وحيائها. أنها لم تتغير. بل لقد ازدادت شحوباً. واقتربت منها .. ولكنها لم تلقت . بل استمرت في البكاء. ومددت يدي أحاول أن أوقف تلك الدموع ولكنها تستمر. ومن بين دموعها. كانت تتحدث.

- أيا الخائن. كنت أظن أنني الوحيدة في قلبك. كنت أحبك.. وأخلص لك .. وبعد أن مت طلبت من الرب أن يعيدني إليك. ولكنك خائن لا تستحق أن أكون لك. أبعد عني.. لأنني لا أريد أن الوث هذا المكان بخيانتك.

- ولكن. يا حبيبتي. هند .. اسمعيني فقط..

ولكنها تبتعد وأحاول اللحاق بها. ولكن أبربعة من الأيدي تمتد إلي ..

- إلى أين. اتركنني..

- أيها الخائن. لقد كنت تقول. أنني الوحيدة التي تحبها..

- يا لك من كذاب. لقد كنت تمنى أن أكون معك حتى الموت..

وأرى هند تبتعد. أنها تعرف الآن خيانتي.. وكلنها لا تحاول أن تنقذني منها..

وتمتد ألا يدي الأربع. بعيدا عن هند وبعيدا عن خطاياي. بعيدا إلى هناك. إلى قاع البحيرة.. وترتفع روحي. من جديد. من قاع البحيرة. سوى هند. فوق الصخرة تبكي. وبعيدا.. وبعيدا جدا.. ربما على باب الجنة.. وقفت الفاتنتان لعلهما تبحثان عن من يدخل الجنة.. وترتفع روحي إلى السماء الأخرى.. ألا يقولون أن هناك سبع سماوات.. أذن فلا بد أن هناك سبع جنات. وأن الإنسان يموت سبع موتات.. يا لهذه السبعات المتعبة. حتى الموت يا إلهي.. وأغيب في الفضاء من جديد.

(23)

كانت السارة تقطع الطريق إلى الراهدة وقد تمدد عليها الصنعاني وكنت أنظر إلى جبال الشمال وفي قلبي أغنية عذبة.. لا يهم سأعود مرة أخرى إلى عدن ويبتسم الصنعاني...

- ماء يا نعمان.. سأعود إلى صنعاء..؟

نعم يا عزيزي سنعود إلى صنعاء...

- ماء سيقولون علينا. مزفرين؟

- دعهم يا عزيزي يقولون ما يشاؤون.ز لقد قمنا بقليل من واجبنا..

وأطلت الراهدة.. ووقف على أبواب الجمرك بعضا الجنود وقال أحدهم ـ ماء أنتم مزفرين ؟ وأجبته دون أن أحاول النظر إليه.. نحن عمال . كنا ضد الاستعمار.. وقهقه البغي.. عا تعلموا إضراب ضد موالانا. عاوديكم حجة..

أما الصنعاني فكان ينظر إلى السماء وهو ممتد على السيارة ويصفر بأغنية صنعانية حزينة.. وقال بعد قليل: شا نكتب جواب " للبحار مه " ؟؟

- والحمد مقبل أيضا..

- سنخليهم يرجعوا صنعاء..

- ليس هناك فرق..

- ونظر إلى وفي عيونه حزن..

- نعمان. هل ستعود إلى عدن..؟

- لم أجبه ولكني رحت أصفر الأغنية الصنعاينة الحزينة...

تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق