الاثنين، 22 أغسطس 2016

فوكوشيما و٦٩ رجلاً .. قصة بطل سقط من أجل بلاده يوشيدا ماساو ﻟ كادوتا ريوشو


مات لتعيش اليابان !


خسر يوشيدا ماساو، المدير الذي قاد ملحمة البطولة لاحتواء التسرب الإشعاعي من محطة الطاقة النووية فوكوشيما دايئتشي عقب كارثة زلزال مارس/آذار ٢٠١١ معركته مع مرض السرطان الذي ألَّم به وفارق الحياة في ٩ يوليو/تموز من هذا العام. يستحضر كادوتا ريوتشو، مؤلف كتاب مهم عن الفقيد بسرد التفاصيل حول معركة النضال من خلال مقابلات مكثفة اجراها المؤلف مع يوشيدا وموظفيه تكريماً لهذا "البطل الذي سقط من أجل بلاده".

 وضعت يدي معاً أمام وجهي لتأدية الصلاة للفقيد وانحنيت برأسي إجلالا وأنا اقول بصوتٍ خافت ”شكرا على ما فعلته. أنت تستحق قسطاً من الراحة“،  كان ذلك في ٩ يوليو/تموز، وكنت قد علمت للتو بأن يوشيدا ماساو، المدير السابق لمحطة الطاقة النووية فوكوشيما دايئتشي، قد وافته المنية في الساعة ١١:٣٢ ظهرا. وهو في الثامنة والخمسين من العمر.

ففي مارس/آذار ٢٠١١ خاطر يوشيدا بحياته من أجل منع وقوع كارثة كان من الممكن أن تلوث كافة أنحاء منطقة شرق اليابان. لم ينسَ واجبه أبدا حيث عمل بكد من أجل تفادي كارثة نووية أسوأ بعشر مرات من حادثة تشيرنوبيل الشهيرة. وحقا أنه يستحق أن يطلق عليه ”الرجل الذي أنقذ اليابان“. وانني لأشعر بعظيم الامتنان وأشكره على بطولته باعتباري واحد من الملايين الذين ما زالوا يعيشون ويعملون في منطقة طوكيو بسلام وأمان.
ضّحى من أجل بلاده
في ٧ فبراير/شباط ٢٠١٢، وبعد أقل من عام على وقوع الكارثة، خضع يوشيدا لعملية جراحية لاستئصال سرطان المريء. في البداية بدت فرص تعافيه جيدة. الاّ انه في ٢٦ يوليو/تموز، نقل إلى المستشفى إثر نزيف دماغي. وقد نجا من هذه الحادثة بعد إخضاعه لعمليتين جراحيتين في الجمجمة وعملية قسطرة. لكن السرطان كان قد انتشر واخذ يسري في جسمه حتى وصل إلى الكبد، وعندما علمت أنه قد وصل الرئتين وأجزاءً أخرى من الجسم أيضاً، شعرت بأن النهاية قد اقتربت.
وبصفتَهِ مديراً مسؤولاً عن محطة فوكوشيما دايئتشي للطاقة النووية خلال الأزمة النووية الناجمة عن زلزال وتسونامي مارس/آذار ٢٠١١، فقد بذل يوشيدا جهوداً وفي ظل ظروف من التوتر لا يمكن تصورها لسحب اليابان من حافة الدمار والهلاك. حيث كان يقاوم مداخلات مكتب رئيس الوزراء والأوامر غير المعقولة من مكتب رئيس شركة طوكيو للطاقة الكهربائية حتى وهو يكافح من أجل السيطرة على التسريبات في عدة مفاعلات. وأياً كان السبب المباشر وراء وفاته، فأنا أعتبر يوشيدا ماساو بطلا سقط مضّحياً من أجل بلاده.
وقبل نقله للمستشفى في يوليو/ تموز ٢٠١٢، وافق يوشيدا على التحدث معي. وبلغ مجموع مدة الجلستين التي قضيتها معه في نهاية المطاف أربع ساعات ونصف. وقد استغرقت محاولاتي سنة وثلاثة أشهر والتجأت إلى الكثيرين للتوسط بيننا لإقناعه بالتحدث معي.
وعندما التقيت يوشيدا وجها لوجه لأول مرة، بدا بقوامه الفارع (١٫٨٤ مترا) أنحف من هيئته التي ظهرت في صور وسائل الإعلام وأشرطة الفيديو. وكانت معركته مع المرض واضحةً بشكل جلي، لكنه ومع ذلك لم يفقد روح الدعابة وظل وجهه مبتسما. نظر إليّ مسترخياً وهو يتحدث بشكل مطول وبعمق حول حزمة واسعة من المواضيع. ثم أفضى إلى باعتقاده بأن ”الكارثة هي أسوأ بعشر مرات من تشيرنوبيل“ وكان من الممكن أن تحدث لو لم يتم احتواء الحادث بسرعة. وامتدح بطولة أعضاء فريقه وهم يكافحون لمنع هذه الكارثة، حيث عملوا على ضخ مياه البحر لتبريد المفاعلات ودخلوا مراراً وتكراراً مباني المفاعلات الملوثة بمستويات عالية من الإشعاع.

تحدي الأوامر والرأي العام
اتصل يوشيدا بسرعة بقوات الدفاع الذاتي طالباً إرسال سيارات الإطفاء كما كان تحت تصرفه عمال شكلوا بدورهم مجموعات لضخ مياه البحر إلى المفاعل. كما أنّه وجه شخصياً عملية التنفيس الطارئ لوعاء الاحتواء في المفاعل رقم واحد لتقليل الضغط في الداخل وتفادي الانفجار. وخلال حديثه، وصف يوشيدا المشهد المروع لدخول العمال البناء مرتدين بدلات الإطفاء وأقنعة الأوكسجين مع خزانات هواء على ظهورهم، وهم يخاطرون بحياتهم لفتح فتحات التنفيس حول المفاعل المنكوب.
ولم يتمكن العاملون الذين نفذوا تلك العملية الصعبة من الاطراء بالثناء على يوشيدا بما فيه الكفاية. حيث صرح احداهم: ”أتذكر أنني كنت أفكر أنه بإمكاني مواجهة الموت طالما السيد يوشيدا معنا“، كما أضاف آخر: ”لو كان المسؤول عن إدارة العملية في ذلك الوقت شخصاً آخر فإنني أشك في كوننا قادرين على احتواء الكارثة“. وانه لمن غير المرجح للموظفين المدنيين أن يخاطروا بحياتهم ما لم تأتي الأوامر من زعيم يحبونه ويكنون له الاحترام. وعقب عودة العمال من مهمتهم، أشاد يوشيدا بهم واحدا تلو الآخر، وصافحهم  قائلا: ”لقد فعلتموها! شكراً جزيلا لكم!“.
وقد ازداد ولاء الموظفين عندما رأوا يوشيدا واقفا أمام كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة تيبكو (طوكيو للكهرباء) خلال الاجتماعات عبر الهاتف وخاصة عندما قام المدير السابق لتيبكو تاكيكورو ايتشيرو، وهو حلقة الوصل بين الشركة ومكتب رئيس الوزراء، بإعطاء الأوامر ليوشيدا لوقف غمر المفاعل بمياه البحر. وقال: ”يتذمرون في مكتب رئيس الوزراء طوال الوقت من أجل إيقاف ضخ مياه البحر الآن“. لكن يوشيدا عرف أن عملية ضخ المياه كانت أملهم الأخير لتبريد المفاعل وتجنب وقوع كارثة أسوأ من ذلك بكثير. ”ما الذي تتحدث عنه ؟“، أجابه بغضب: ”لا يمكننا التوقف“.
وبعد تحديه لتاكيكورو، توقع يوشيدا أمراً مماثلاً من مقر شركة تيبكو في أي لحظة. ذهب الى كبير العمال الذي كان يشرف على عمليات التبريد واقتاده جانبا.
وقال له: ”اسمع“، ثم أضاف: ”قد نتلقى أوامر جديدة من المكتب الرئيسي لوقف ضخ مياه البحر إلى المفاعل. سأطلب منك أن تتوقف خلال الاجتماع المغلق عبر الهاتف. ولكنه ليس عليك الانصياع لهذه الأوامر. استمر في ضخ المياه . مفهوم؟“
وبالتأكيد، اتصلت تيبكو بعد فترة وجيزة لإعطاء الأوامر لوقف عملية غمر المفاعل بمياه البحر. ولكن بفضل سرعة بداهة يوشيدا، تواصلت عمليات التبريد الحيوية. من بين جميع خبراء الطاقة النووية في تيبكو، كان يوشيدا الشخص الوحيد الذي تذكر الواجب الحقيقي لمهندس الطاقة النووية.
فوكوشيما  و٦٩ رجلاً
في وقت مبكر من صباح يوم ١٥ مارس/آذار، جلس يوشيدا منهكاً في مركز قيادة الطوارئ في الطابق الثاني من مبنى معزول زلزالياً. وكان الحادث النووي في فوكوشيما دايئتشي في أكثر مراحله حرجاً، مع تزايد الضغط داخل وعاء الاحتواء في المفاعل رقم اثنين. كان يقفز يوشيدا بقلق من كرسيه، ثم يعود إليه مرة أخرى. كان جالساً هناك لبعض الوقت، رأسه محني، ومبحر في التفكير.
 قال لي: ”وعند هذه النقطة، لم يكن هناك سوى طريقة واحدة للتحكم بالتسرب وإبقاءه تحت السيطرة، وكان ذلك من خلال مواصلة ضخ مياه البحر. كان علي أن أقرر من الذي سوف يبقى في المحطة لإبقاء مياه البحر متدفقة. كان القرار مشابها لاختيار من سيموت معي. ظهرت صورة وجوه زملائي في الفريق أمامي واحداً تلو الآخر . . . . وكان أول من جاء في ذهني المشرف على سلامة المفاعل وفريق الإصلاح. نحن في نفس العمر، على الرغم من أنه انضم لشركة تيبكو مباشرة بعد المدرسة الثانوية. خضنا الكثير معاً على مر السنين. كنت أعرف على الفور أنه سيكون مستعداً للمخاطرة بحياته لفعل ما يلزم“.
”لم أستطع التفكير بأن هؤلاء الناس الذين عرفتهم لسنوات قد يموتون انصياعاً لأوامري. لكنني كنت على يقين أن أملنا الوحيد هو الاستمرار في ضخ المياه. لم يكن لدي أي خيار. طلبت منهم الاستعداد للأسوأ. لم أتمكن من التخلص من هذه الأفكار وأنا جالس هناك“.
لقد كان قراراً حاسماً. وفي النهاية، بقي ٦٩ رجلاً لخوض هذه المعركة الحرجة، على الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية أطلقت عليها لاحقا اسم ”فوكوشيما ٥٠“. عزم الجميع على القيام بكل ما يتطلب لاحتواء الكارثة. فمن خلال رفض قبول الهزيمة والمثابرة في مواجهة مخاطر شخصية كبيرة، منع يوشيدا وفريقه كارثة يمكن أن تكون قد دمرت فوكوشيما وحولت ثلث اليابان إلى مكان غير صالح للسكن.
تدابير مقتصرة ضد التسونامي
لقد صدمت عندما بدأت وسائل الإعلام المناهضة للطاقة النووية انتقاد يوشيدا بعد وفاته. زعموا أنه أعاق تدابير كان من شأنها أن تحمي المحطة بشكل أفضل ضد أمواج تسونامي، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً.
ففي أبريل/ نيسان ٢٠٠٧، تم تعيين يوشيدا رئيساً لقسم إدارة المواد النووية في تيبكو ومنذ ذلك الوقت، استمر في التركيز على خطورة حدوث أمواج مد عاتية. وخلصت لجنة تقييم التسونامي الفرعية التابعة للجمعية اليابانية للمهندسين المدنيين أنه لا يوجد خطر من حدوث تسونامي قبالة سواحل فوكوشيما، وحتى مجلس إدارة الكوارث في الحكومة (برئاسة رئيس الوزراء) استبعد منطقة فوكوشيما الساحلية من التدابير والتخطيطات لمواجهة الكوارث الخاصة. وعلى الرغم من هذا، أمر يوشيدا المحللين بحساب الحد الأقصى لارتفاع أمواج التسونامي في المنطقة على أساس زلزال بعيدا عن الشاطئ على نطاق مماثل لزلزال ميجي سانريكو قبالة سواحل محافظة ايواتي في عام ١٨٩٦. حيث أثار ذلك الزلزال أمواج تسونامي أودت بحياة حوالي (٢٢٠٠٠) شخص. وعندما أظهرت نتائج التحليلات أن الحد الأقصى لارتفاع الأمواج قد يصل إلى ١٥.٧ متراً، قدم يوشيدا طلباً رسمياً إلى الجمعية اليابانية للمهندسين المدنيين لإجراء تقييم لأخطار التسونامي استنادا إلى مصدر الحدث قبالة سواحل فوكوشيما.
هذا وتعود أبحاث يوشيدا في تاريخ الزلازل للمنطقة إلى أبعد من ذلك. فقد أدار عملية تحليل ترسيبات رملية لحساب ارتفاع موجات المد الناجمة عن زلزال جوغان سانريكو الذي وقع في عام ١٩٦٨. وخلصت الدراسة إلى أن ارتفاع أمواج التسونامي بلغ أربعة أمتار.
ولكن تصميم وبناء جدار بحري قادر على حماية محطة لتوليد الكهرباء من كارثة افتراضية ليست شيئا يحدث بين عشية وضحاها. حيث كان الإجماع على أن مثل هذا التسونامي الضخم بعيد الاحتمال. وحذر بعض الخبراء من أن جدارا بحريا لن يكون كافيا لتخطيط مكافحة المخاطر حتى لو ضربت أمواج التسونامي: فإذا ضربت موجة كبيرة الجدار بزاوية مائلة فقد ترتد الى مستوطنات مجاورة، وتلحق أضرار واسعة النطاق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي خطط لبناء جدار بحري ضخم تتطّلبُ أولا إجراء عملية تقييم بيئي لتحديد مدى الآثار التي ستترتب على البيئة البحرية وعلى الصناعة السمكية المحلية.
وبالفعل لم يتقاعس يوشيدا عن اتخاذ تدابير ضد التسونامي، فقد عمل أكثر من أي شخص آخر في هذه الصدد على جمع البيانات اللازمة لإقناع المجتمعات المحلية حول الحاجة إلى اتخاذ تدابير وقائية أقوى في فوكوشيما دايئتشي.
ولكن قبل أن تؤتي جهوده ثمارها وأُكُلُها، وقعت الكارثة. وكان الزلزال الذي وقع قبالة الساحل الشمالي الشرقي لليابان في ١١ مارس/آذار ٢٠١١ على نطاق أبعد من أي شيء تنبأت به الجمعيات العلمية الكبرى أو المؤسسات البحثية. حيث أطلقت الكارثة ٣٥٨ أضعاف الطاقة التي انبعثت عقب زلزال كوبي عام ١٩٩٥ كما سببت موجات مد عاتية. لقد خاطر يوشيدا بحياته في معركته وملحمته البطولية لاحتواء هذه الحادثة.
وكفريق واحد تحت قيادة يوشيدا الملهمة، دخل العمال إلى غرف المفاعل عالية الإشعاع في المحطة مراراً وتكراراً. وبهذا، تفادوا وقوع كارثة ذات أبعاد لا يمكن لأحَدٍ تصورها. وهُنا يجب أن يشعر الشعب الياباني بعميق الامتنان لأن العناية الالهية وضعت يوشيدا ماساو في مكان الكارثة بعد ظهر ذلك اليوم المشؤوم. ولربما من دونه، لكانت العواقب أسوأ بكثير.
( المقالة الأصلية باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية، ١٤ أغسطس /آب ٢٠١٣ )
(الصورة : يوشيدا ماساو، مدير محطة فوكوشيما دايئتشي للطاقة النووية، وهو يجيب على أسئلة الصحافيين في مركز التحكم في حالات الطوارئ في المحطة. الصورة مقدمة من يوميوري شيمبون وAFLO)